صدّ مسيحي لحوار بري… و”إتفاقية الترسيم” عند نتنياهو العائد بقوة

لبنان الكبير

لعل الكلمة التي ألقاها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من على منبر القمة العربية في الجزائر، هي الأكثر تعبيراً عن الواقع اللبناني حين قال: “لبنان الذي تعرفونه تغيّر. منارته انطفأت، مرفأه انفجر، مطاره من دون أنوار، يحارب الأوبئة باللحم الحيّ، شبابه هاجر… فساعدونا”، لكن فاته أن يشرح الأسباب التي أوصلت بلد الأرز وجوهرة الشرق الى الجحيم المظلم، ولا يكتفي بتوصيف النتائج. لم يشأ الاعتراف أمام الأشقاء العرب بأن المنظومة السياسية نفسها هي التي اقترفت هذه الجرائم، وخططت ونفذت بدم بارد، وتسببت بأكبر كوارث انسانية عرفها العصر الحالي. وهل يمكن بعد كشف المستور أن نطلب المساعدة من الدول التي لم تقصر يوماً خلال الحروب والكوارث والأزمات التي فتكت بلبنان وشعبه، ونحن رددنا الجميل عبر تصدير الارهاب وحبوب الكبتاغون والمواقف النارية؟ فهل المساعدة العربية حلال علينا؟ وهل نستحقها؟

الشعب يستحق كل خير لكنه يدفع باهظاً ثمن ارتكابات المسؤولين الذين حوّلوه الى شحاذ ومحتاج على أبواب الدول، ولا يزالون مستمرين في سياساتهم العمياء والمصلحية، وخير دليل الشغور والفراغ وانهيار المؤسسات كافة حتى أن بصيص الأمل الضئيل الذي كان يعوّل عليه من خلال الحوار الذي دعا اليه رئيس مجلس النواب نبيه بري قد خفت لا بل انطفأ كلياً بعد البيان الذي صدر عن مكتبه الاعلامي وفيه: “بعد إستمزاج الآراء حول الدعوة الى الحوار بين الكتل النيابية للوصول الى رئيس توافقي، يعتذر الرئيس بري عن السير قدماً بهذا التوجه نتيجة الإعتراض والتحفظ لاسيما من كتلتي القوات والتيار”. وأكد مصدر مقرب من “الثنائي الشيعي” لـ “لبنان الكبير” أن أي حوار اذا لم يكن مكتمل الأركان والأسس، يكون بلا معنى، والرئيس بري رجل حوار ويدرك تماماً أن غياب مكون في العملية السياسية، تنتفي معه الدعوة الى الحوار. وهذا ما حصل. “القوات” اعتذرت و”التيار” رحب لكن عاد وعلق المشاركة بسب الاشتباك السياسي الذي حصل، علماً أن الرئيس بري عندما دعا الرئيس ميشال عون الى الحوار كان من أول المرحبين. وزار النائب باسيل، الرئيس بري ووصفه برجل الحوار، فما الذي تغير بعد هذه الزيارة؟ الرئيس بري يجند نفسه للمصلحة الوطنية في حال توافرت الارادة، وما لم تتوافر، فإن أي مبادرة أو دعوة لن تلقى الصدى المطلوب .

المبادرة منذ طرحها، اعتبرت ميتة قبل أن تولد لاعتبارات كثيرة اذ أن البعض رأى أن انتخاب الرئيس قضية دستورية بحت، ولا يحتاج الى حوار أو تدوير زوايا انما الى التطبيق. والبعض الآخر اعتبر أن الحوار مهم وواجب بين اللبنانيين في القضايا الوطنية الكبرى، وليس حول انتخاب الرئيس الذي هو عملية ديموقراطية بديهية يجب أن تتم تحت قبة البرلمان. وتخوف آخرون من خلفيات هذا الحوار بحيث أن الجميع يحترم الرئيس بري، ويثق بقدرته على ايجاد المخارج لكن في الوقت نفسه هو طرف ورئيس حركة “أمل”، ومكون أساس في “الثنائي”، ولن تكون قراراته وفق ارادته وحده.

واذ تعمد البيان تسمية الطرفين المسيحيين اللذين يشكلان الغالبية المسيحية البرلمانية، وتحميلهما مسؤولية نسف الحوار خصوصاً بعد السجالات السياسية بين النائب جبران باسيل والمعاون السياسي لرئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل، فإن أحد نواب “التيار”، لفت الى “أننا أبدينا كل ايجابية من الحوار، وقلنا انه لا يمكن في ظل الشغور الرئاسي وحكومة تصريف الأعمال والأزمة القائمة، رفض الدعوة الى الحوار، لكن فوجئنا بالهجوم الكبير الذي تعرضنا له من فريق الرئيس بري وإعلامه. وعلى الرغم من ذلك، استمرينا في الايجابية لناحية المشاركة في الحوار، ولكن كيف يمكن دعوتنا اليه في وقت يستهدفنا الفريق الداعي له؟”. في حين ثمّن أحد نواب “القوات”، أي مبادرة يمكن أن تترجم في مجلس النواب خلال جلسات انتخاب رئيس الجمهورية. وقال: “هل من مكان أفضل من البرلمان لعقد الحوار؟ نحن تحت مظلة الدستور، وندعو الى عقد جلسات انتخابية متتالية على مدى أيام وصولاً الى انتخاب الرئيس. وفق الدستور والعملية الديموقراطية، فإن كل فريق يطرح مرشحه، ومن يفوز يكون قد فاز. الدستور لم يوضع لتدوير الزوايا انما للتطبيق”.

وفي قراءة لهذا الواق ، أوضح أحد نقباء المحامين السابقين أن الهدف من الحوار الوصول الى نتيجة، وليس استعراض القوة أو النفوذ أو المواقف. والطاولة تعني أن الجميع على مسافة واحدة، وتقرب المسافات وتخفف من حدة التشنج. في العادة، تجري طاولات الحوار حول مواضيع مختلفة، لكن في السابق، كانت تعقد حول مواضيع وطنية كبرى ومنها الاستراتيجية الدفاعية وما الى ذلك من قضايا طارئة. هذا من حيث الشكل، لكن هذا لا يعني أن اللبنانيين في غنى عن الحوار في ما بينهم. وفي ظل أجواء الانتخابات التي تزيد من التشنج بين الأطراف، هناك جهات توجست من دعوة الرئيس بري الى الحوار على اعتبار أن أي حوار بين المكونات المختلفة على تعددها يجب أن يدعو اليه رئيس الجمهورية، وأن هذه الدعوة تشكل انتقاصاً من حقوق الرئاسة الأولى. هذا الكلام ليس في محله لأن الحوار والنقاش أمران مطلوبان لايضاح الأمور التي تشكل نقاط الخلاف بين الأطراف وتقريب المسافات بينها، لكن في الوقت نفسه يجب أن يكون الحوار مبنياً على العقل والمنطق والمصلحة الوطنية العليا. عملية رفض الحوار سواء علناً أو ضمناً، مسألة سلبية وليست ايجابية. وبالتالي، التملص من الدعوة اليه يشير الى أن بعض القوى السياسية يريد البقاء في متراس معين لتحقيق مصالح معينة في السياسة. وهناك من يشدد على ضرورة الحوار انما تحت قبة البرلمان، كما أن هناك من يعول على أهمية الحوار بغض النظر عن المكان والشكل. فكرة الحوار تحت قبة البرلمان وبين النواب أمر جيد لكن أن نرى طريقة الحوار بصورة مختلفة عما نراه على شاشة التلفزة، وبالتالي، أن يعقد في قاعة أخرى غير القاعة الأساسية التي يعتبرها النواب للمبارزة، وتواجدهم فيها يحفزهم على ذلك. الرئيس بري ليس رئيس مجلس نيابي وحسب، انما يمثل رأياً وحزباً معيناً وتوجهاً سياسياً معيناً، لكن في كل الأحوال، وبغض النظر عن الجهة الداعية، فإن كل طاولات الحوار السابقة كان يصل خلالها المتحاورون الى الاتفاق على نقاط معينة، ليتم التملص منها لاحقاً، والبعض ينقلب عليها. إذاً، التجارب السابقة للحوار غير مشجعة. وبالتالي، مسألة انتخاب رئيس الجمهورية اليوم ليست مسألة اتفاق بين الأطراف في الداخل وحسب انما مسألة اقليمية ودولية، وحين تتأمن الظروف الاقليمية والدولية، فإن النصاب يتأمن، وانتخاب الرئيس يحصل بسرعة قياسية، والأمثلة كثيرة على ذلك في الانتخابات الرئاسية اللبنانية. وفي الخلاصة، انتخاب رئيس الجمهورية وفق المعطيات الداخلية والتطورات الخارجية صعب حالياً.

وفيما يستعد نواب الأمة اليوم لجلسة مناقشة رسالة الرئيس عون حول نزع التكليف من الرئيس ميقاتي، والتي اعتبر كثيرون أنها ستكون شكلية، لا تقدم ولا تؤخر في الحياة السياسية حتى أن بعض النواب يفكر في مقاطعتها، كان الرئيس ميقاتي يجتمع على هامش قمة الجزائر، مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أعرب عن اهتمامه بما يحصل في لبنان، متمنياً أن يتم انتخاب رئيس جديد من دون ابطاء ليكون انتخابه مؤشراً الى اعادة استنهاض لبنان. فيما تمنى ميقاتي عليه تزويد لبنان بما يحتاج اليه من أدوية ولقاحات لمعالجة وباء الكوليرا.

الى ذلك، تردد وقع الفوز الكبير لبنيامين نتنياهو في الانتخابات البرلمانية الاسرائيلية، والذي سيعيده الى السلطة، في اتجاهات عدة، إقليمية ودولية، بينها لبنان المحتفي منذ وقت قصير بـ”نصر” إتفاقية الترسيم البحري مع اسرائيل، والتي كان نتنياهو عارضها، لتبدأ حسابات جديدة حول قدرة الادارة الأميركية على ضمان بقاء الاتفاقية.

وفي حديث صحافي، أكد ميقاتي أن الضمانات الأميركية ستحمي اتفاق الحدود البحرية مع إسرائيل، ولبنان “غير خائف” من احتمال إلغائه إذا فاز نتنياهو، والاتفاق أصبح في عهدة الأمم المتحدة.

وفي هذا الاطار، أوضح أحد الخبراء أنه لا يمكن الوثوق بالعدو الاسرائيلي، ولو لم تكن هناك ضمانات معينة لما حصل الاتفاق. لكن السؤال هنا: هل يستطيع نتنياهو أن ينكث بهذا الاتفاق، ويتحمل تداعياته من الناحية الاقتصادية والآثار السلبية عليه وعلى شعبه؟ من مصلحة اسرائيل الاستمرار في الاتفاق وأي نقض له يعرضها لوقف الاستخراج والانتاج. وبالتالي، قبل الحديث عن ضمانات أميركية وأممية، فإن اسرائيل لديها مصلحة كبرى في تنفيذ الاتفاق من الناحية الاقتصادية والأمنية خصوصاً أن الحدود تتحول الى حدود آمنة بوجود منصتي انتاج في الطرفين اللبناني والاسرائيلي. اليمين المتطرف على الرغم من تطرفه، اذا وجد أن مصلحة اسرائيل تقضي بعدم الانقلاب على الاتفاق، فلن يقوم بأي خطوة غير مدروسة مع العلم أن كل المؤشرات والدلائل تشير الى أن الاتفاق لمصلحة اسرائيل، وبالتالي، لا خوف من تعريضه لأي نكسة. الاتفاق عرض على الحكومة الأمنية المصغرة وعلى الكنيست وصدر حكم عن المحكمة العليا بشأنه ما يعني أنه يتخذ صفة الالزامية بحيث أن اسرائيل ألزمت نفسها به من الناحية السياسية والدستورية والقضائية. ولو لم تكن أميركا ضامنة لهذا الاتفاق لما حصل لأن اسرائيل لا تفي بوعودها وبالتزاماتها، كما أن الأمم المتحدة تلعب دوراً من خلال شرعنة الاتفاق وتعطيه قوة تنفيذية بمفهوم القانون الدولي.

وفي القمة العربية أيضاً، وعشية المؤتمر الذي تعقده السفارة السعودية في الذكرى 33 لاتفاق الطائف، أعلن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أنّ “المملكة تشدد على محورية سيادة الدولة اللبنانية”، داعياً الى “انتخاب رئيس يكون قادراً على توحيد البلاد”. وأكد أن “التدخلات الخارجية والميليشيات تحتم تكاتف جهودنا لمواجهتها. نرفض نهج التوسع والهيمنة على حساب الآخرين”.

شارك المقال