الساسة والتجار ينهشون اللبناني… الراعي يبدأ التأنيب

لبنان الكبير

في السياسة، الكلام والتفسيرات والتأويلات كثيرة والأفعال قليلة لا بل معدومة، وما وصل اليه البلد على هذا المستوى بغنى عن التوضيح والتفسير. وفي الاقتصاد تنقلب الأمور، لتصبح التفسيرات والتوضيحات والارشادات قليلة، وتكثر الأفعال الضريبية، وتتفنن السلطة في فرض بطشها المالي الذي لا يركب على قوس قزح، وتعبّر عن كل مواهبها الخارقة، والعابرة لكل منطق وعقل، في تضييق الخناق على الناس وحصارهم من كل الجهات حتى يُخيل اليهم أن هناك حكماً مبرماً بالقضاء عليهم فرداً فرداً، وعن سابق تصور وتصميم، حتى أن خبراء الاقتصاد لا يصدقون قساوة الاجراءات الضريبية التي تتخطى كل الحسابات الرقمية العلمية، وكل ما هو منطقي وعلمي، ليعود ويستدرك أحدهم في تصريح لموقع “لبنان الكبير” بالقول: “أبواب جهنم فتحت على مصراعيها، ومن كتب له العمر المديد، سيستمر حتى النهاية. الويل ثم الويل للسلطة اذا لم تعدل في قراراتها لأنها ستكون أول المحترقين بالنار التي أشعلتها. نحذر من سيناريوهات مخيفة، وأعذر من أنذر”.

لكن كل انذارات العالم، وكل صفارات الخطر التي تدوي في كل حي وشارع ومنزل، وكل أنين المواطنين وصرخاتهم ونداءاتهم للاستغاثة لن تنفع لسبب بسيط وهو أن المسؤولين لا يشعرون بمعاناتهم، ولا يهمهم أصلاً ان ماتوا جوعاً أو برداً أو مرضاً لأن مصالحهم أولوية، والباقي تفاصيل. ومن يسمع وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام يطمئن اللبنانيين يدرك حجم انفصام المسؤولين وانفصالهم عن الواقع. فهو قام بكل واجباته الاعلامية، واستعراضاته ومسؤولياته الوهمية حتى أنه أكد أن سبعين في المئة من المواد الغذائية لن تتأثر بالدولار الجمركي على سعر الـ15000 ليرة، والثلاثين في المئة المتبقية درست بصورة دقيقة جداً. ثم ان السلع الغذائية التي تخضع للدولار الجمركي هي تلك التي يصنّع مثلها في لبنان بكميات تكفي السوق اللبنانية، إضافةً إلى السلع الفاخرة. كما أنه طلب من المستوردين والقطاع الخاص وأصحاب السوبرماركت الالتزام بتفاصيل الدولار الجمركي وبيع كل الكميات المخزّنة على الدولار الجمركي 1500 ليرة. وهنا نسأل معالي الوزير: هل تعيش على الأراضي اللبنانية أو في كوكب آخر؟ ألم تعرف الى اليوم أن التجار استبقوا رفع الدولار الجمركي، ورفعوا الأسعار بصورة كبيرة وعلى كل المواد الاستهلاكية؟ ثم أين هي الجهات الرقابية التي ستسطر محاضر الضبط بحق التجار الذين لم ولن يميزوا بين السلع المستوردة وتلك المصنعة في لبنان؟ ألم يخبرك أحد بأن الكثير من البضائع وفي مختلف القطاعات فقدت من السوق منذ فترة لأن المستوردين والتجار خزنوها بكميات هائلة في مستودعاتهم لبيعها على أساس الدولار الجمركي 15 ألفاً؟ ألم تعلم أن التجار نهشوا لحم الناس كالذئاب الكاسرة، ولم يرحموا لا جائعاً ولا مريضاً ولا عاجزاً ولا طفلاً ولا مسناً؟ الجواب يأتي “بعضمة لسانك” حين تقول ان “التجار استغلوا الضعف الرقابي لدى الادارات، وأناشد الجميع الالتزام الكامل بالدولار الجمركي على المواد التي تأتي منذ مطلع الشهر الحالي”. إذاً، أنت تدري ما تقول، وتدرك ما تفعل، واليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى بتحمل مسؤولياتك تجاه البلد وأهله لأن المركب سيغرق بالجميع.

وفي ظل الاجراءات الضريبية العشوائية، يسأل أحد الخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين: أين هي التحفيزات الاجتماعية وسط الارتفاع الجنوني الذي سيلحق بالأسعار مما سيقلل من القدرة الشرائية لدى الناس، وزيادة معدلات الفقر الى مستوى غير مسبوق؟ المشكلة التي نقع فيها أنّ القرارات تُتخذ بالقطعة (بالمفرق). هناك مواطنون لديهم القدرة على الاستمرار في ظل الانهيارات الحاصلة، لكنهم لا يشكّلون أكثر من 15 الى 20 في المئة، والثمانون في المئة المتبقية، متروكة لمصيرها الأسود. نحن اليوم أمام هجرة شبابية نخبوية، وغداً أمام هجرة رأسمالية. وفي الخلاصة، نداء الى المسؤولين: حرام عليكم تحميل الناس خسائر الدولة التي سرقتموها ونهبتموها. اتقوا الله، وارحموا الناس، واصغوا الى الضمير إن وجد.

وبعيداً عن الهموم المعيشية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، تستمر المسرحيات السياسية على قدم وساق وفي كل الاتجاهات في الداخل، ويتنقل لبنان وملفه الرئاسي بين العواصم الأوروبية والأميركية حيث شهدت واشنطن قمة فرنسية – أميركية، حضر ملف لبنان على هامشها بين الرئيسين ايمانويل ماكرون وجو بايدن، ومنها الى الفاتيكان مع مواقف تأنيبية بارزة أطلقها البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي في حق معطلي نصاب جلسات انتخاب رئيس الجمهورية، لكن كلها لم تأت على قدر الآمال لأن المعادلة بسيطة: طالما القاضي راضي، فالجميع يستدير الى مصالح دوله ومعالجة مشكلاتها.

في الموازاة، تبقى الجلسة الوزارية التي دعا اليها رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي عند الحادية عشرة من قبل ظهر بعد غد الاثنين في 5 كانون الأول الجاري، في السراي الحكومي، تتفاعل بحيث أعلن وزراء “التيار الوطني الحر” مقاطعتهم الجلسة الحكومية، علماً أن جدول الأعمال يتضمن القضايا الضرورية والملحة في مقدمها قطاع الاستشفاء بحسب المعلومات الصحافية. في حين يعتبر نواب “التيار البرتقالي” أن “محاولات التذاكي ومنح حكومة تصريف الأعمال صلاحيات لا تملكها تسبّب اشكاليات دستورية وسياسية في غير أوانها”، ناصحين ميقاتي بـ “الاقلاع عن أي استفزاز أو ابتزاز”.

على أي حال، على الرغم من الجمود السياسي، وانعدام البوادر الايجابية التي من شأنها أن تؤدي الى انتخاب رئيس للجمهورية، أشارت بعض المعلومات الى أن الحوار عاد لينشط بين كتل المعارضة وأعضائها لتقريب وجهات النظر، وردم هوة التباين بينهم على أمل التوصل الى أرضية مشتركة أو خارطة طريق يمكن أن تنتج رئيساً خصوصاً بعد اقتناع الجميع بأنه لا يجوز الاستمرار في الستاتيكو القائم بحيث أن الفريق الآخر لم يعلن مرشحه بعد، ويصوّت بورقة بيضاء، وينسحب من الدورة الثانية، ويفقد الجلسة نصابها أي أنه يسيّر الجلسات وفق ما تقتضيه مصلحته. إذاً، الخيارات أصبحت واضحة، واللعبة مكشوفة، وبات عدد من النواب التغييريين يستشعرون خطورة المسار التعطيلي كما أن الحوار جدي ومتقدم مع كتلة “الاعتدال الوطني”، وهذا ما أكده النائب معوض بعد الجلسة الأخيرة، وقال: “اذا كان هناك حل وطريقة بديلة فنحن مستعدون، ولكن بالشعارات لا نصل إلى رئيس اصلاحي وسيادي، وإذا طُرح أيّ رئيس سيادي إصلاحي يُشكّل إمكاناً لجمع المعارضة أو لتأمين النصاب فأنا مستعدّ شرط ألا يكون رئيساً غير قادر على التغيير”.

وتحدثت أوساط نيابية عن التواصل بين قوى المعارضة الذي لم ينقطع يوماً، “ونحن منذ البداية قلنا اننا متمسكون بترشيح النائب معوض، لكن اذا وصلنا الى حائط مسدود، وتوافقت أطياف المعارضة جميعها على اسم معين، فنسير بهذا الخيار، ولا نزال عند موقفنا، لكن لا بد من التأكيد هنا على وجوب أن تسير الأمور بهدوء، وتدرس الطروحات بروية خصوصاً أن معوض يحظى بما يقارب الخمسين صوتاً ما يعني أن مسار البحث والتوافق على اسم يتمتع بالمواصفات السيادية والوطنية والانقاذية ليس سهلاً”.

وتواصل “لبنان الكبير” مع عدد من نواب المعارضة من مختلف الكتل الذين أكدوا جميعهم أن التواصل لم ينقطع بينهم، لكن في الوقت نفسه ليست هناك من أسماء جديدة تطرح على أمل الوصول الى التوافق على اسم من بينها، كما أن ليس لديهم علم بأي مبادرة جديدة في المسار الرئاسي، والطروحات لا تزال فردية وليس هناك من أمر جدي. مع تأكيد من ينتخبون النائب معوض أنهم لا يزالون على هذا الخيار حتى اشعار آخر. وفي حال توافقت أطياف المعارضة على اسم، فإن لا مانع من السير به حتى أن معوض لن يعارض ذلك، شرط أن يكون سيادياً ووطنياً وانقاذياً واصلاحياً.

شارك المقال