14شباط 2023… استفتاء الوفاء

لبنان الكبير

كان يوماً استثنائياً، إختلط فيه الحزن مع الأمل، الدمع مع الهتاف… كان استفتاء شعبياً على امتداد هذا الوطن. لا ما خلصت الحكاية. لا الحريرية السياسية لم تنته. لا سعد الحريري لم يبتعد عن ناسه. نعم حافظ على تعليقه العمل السياسي، لكنه ازداد قرباً من جمهوره الوفي، الذي يثبت مرة أخرى أن الزعامة ما زالت وستبقى عند سيد “بيت الوسط”.

كان استفتاء مفتوحاً أمام الكاميرات. استفتاء الوفاء المتبادل بين سعد رفيق الحريري وبين الحريريين على امتداد الوطن، بلا مزايدات وبلا شعارات، بكلام قليل: جملتان تختصران الأمس واليوم: الله يرحم رفيق الحريري والله يعين هالبلد… أما المستقبل فأمانة عند الإبن وريث حلم الربيع.

في 14 شباط 2005، هزّ زلزال كبير بيروت لا بل لبنان الكبير من أقصى شماله الى أقصى جنوبه. وما هي الا لحظات حتى انتشر الخبر الصاعقة. انه الرئيس رفيق الحريري المستهدف بأطنان من المواد المتفجرة مضافة الى أطنان من الحقد والشر والضغينة والكراهية. حينها شعر اللبنانيون أن عقارب الساعة توقفت، والزمن رجع الى الوراء، الى الأيام السود والدمار، وأن البلد دخل في نفق مظلم، لأن الرجل الذي شكل مظلة حماية وسداً منيعاً في وجه عواصف المتآمرين والطامعين والحاسدين والغدارين، قد رحل. لكن الحزن حينها، أعمى عيونهم، وأدمى قلوبهم، وأتلف أعصابهم، وأوقف تفكيرهم المنطقي، ولم يستدركوا أن الرجل الذي انتشلهم من تحت الركام، وحوّل الدمار الى عمار، وردد على مسامعهم مرات ومرات أن “ما حدا أكبر من بلدو”، لن يبخل عليهم بدمائه لانقاذهم من حبل مشنقة احتلال، فكان استشهاده شرارة الاستقلال الثاني.

وكما تزرعون، تحصدون. ولأن الأب الشهيد لم يزرع سوى الخير والحب، استشهد في يوم الحب، وحصد حصاداً وفيراً من الحب والوفاء والا كيف يمكن تفسير وجوده وحضوره بهذه القوة بعد 18 عاماً حتى قيل انه موجود وهو تحت التراب أكثر بكثير من أولئك القابعين في قصورهم العاجية المزيفة؟ والسؤال في الذكرى كما في كل يوم: ما سر هذه العائلة التي يجمع على حبها الخصوم قبل المؤيدين؟ ما سر أولئك الناس الذين توافدوا من مناطق بعيدة الى ضريح الرئيس الشهيد، ليصلّوا على روحه، بقراءة الفاتحة أو صلاة الابانا والسلام؟ لماذا ينتظر المحبون عودة الرئيس سعد الحريري بهذا الشغف، للقائه والقاء التحية عليه عند الضريح أو في “بيت الوسط” على الرغم من أن تيار “المستقبل” لم يدعُ الى المشاركة؟ انه الجواب السهل بعيداً عن التفسيرات والتحليلات: الحب النابع من القلب يصل الى القلب.

نعم انه الحب الذي تجلى بأبهى صورة أمس حين ضاق قلب العاصمة بالمحبين الذين أرادوا لقاء السعد بعد سنة من الغياب، غير آبهين بأحوالهم المادية الصعبة، ومتناسين الهموم المعيشية اليومية لأنهم على ثقة بأن وجوده بينهم سيشكل جرعة دعم معنوية ليكملوا طريق الجلجلة التي أوصلتهم اليها المنظومة، وهم واثقون بأنهم سيعبرون مع زعيم من طينة الرئيس سعد الحريري الى بر الأمان مهما طال الزمن، واشتدت الصعاب.

لم ينتظر الأوفياء ساعة الظهيرة أو الواحدة الا 5 دقائق، ليصلوا الى الضريح، فهم استفاقوا فجراً، وتوجهوا الى وسط بيروت، من مناطق بعيدة وقريبة، حاملين الأعلام اللبنانية وأعلام تيار “المستقبل” وسط الأغاني الوطنية وتلك الخاصة بالرئيس سعد. ولعل ذلك الرجل التسعيني الذي يكاد يسير بضع خطوات بمساعدة حفيده، يلخص بكلماته القليلة حب الناس لعائلة الحريري وللرئيس سعد الحريري، قائلاً: “معيب جداً ألا نكون هنا جميعاً في هذا اليوم وفاء للأب كما للابن. ظُلما كثيراً، لكن صاحب الحق هو الذي يرد حقهما ولو بعد حين. نحن مؤمنون، والمؤمن على قناعة بأن الباطل لن ينتصر على الحق”.

وليس بعيداً من الضريح، تقف امرأة حامل وفي حضنها طفل عند جامع محمد الأمين، اتقاء من الشمس ومن زحمة الناس، لكن وضعها الصحي لم يمنعها من تكبد مشوار بعيد من عكار، “كنت رح موت لو بقيت بالبيت، وما شفت الشيخ سعد”. وتدمع عيناها، قائلة: “شتقنالو كتير، ونحنا يتامى من دونو. هو القلب والروح، ونحنا عايشين بغيابو جسد بلا روح. والبلد كمان صار بلا روح وبلا نبض”.

بصعوبة كبيرة، شق الرئيس سعد الحريري طريقه نحو ضريح والده، فالوفود غفيرة، تريد أن تتمسك به، وتستبقيه بينها. وكانت تردد منذ الصباح الباكر مطالبتها بعودته النهائية الى ربوع الوطن ليكون الى جانبها، ولينقذها من المنظومة الفاسدة. ولم تمنع الاجراءات الأمنية المكثفة، المحبين من الاقتراب من موكبه، فنزل بصعوبة لأن الجميع أرادوا مصافحته وتقبيله. أرادوا أن يخبروه أن البلد في غيابه، اهتز وتصدع، وأهله باتوا على الرمق الأخير.

وعند وصوله الى الضريح، تعالت الهتافات “بالروح بالدم نفديك يا شيخ سعد”، وامتزجت دموع فرح اللقاء بدموع حرقة الغياب، فكانت دقائق معدودة، لكن فيها الكثير من المشاعر المتناقضة، والكثير من الانسانية والوجدانية لأن الاشتياق كبير. وبعد أن قرأ وعمته بهية وعمه شفيق الفاتحة عن روح الرئيس الشهيد، ورفاقه الشهداء، أبى السعد الا أن يلقي التحية على المحبين، وحرص على أن يقترب منهم، ويصافحهم فرداً فرداً، فهو أيضاً مشتاق للحب النابع من القلب، ومشتاق لأهله ولرفاق الدرب، كما يحمل همهم، ويؤلمه وضعهم الصعب لأنه يعرف تماماً أن هذا الذل لا يليق بالشعب اللبناني، حتى أنه كسر صمته، ليقول: “الله يرحم الرئيس رفيق الحريري والله يعين لبنان”.

ولدى سؤاله من الصحافيين عما يعني له هذا المشهد في هذه الذكرى، أجاب باقتضاب: “عنالي الدنيا كلها”.

ذكرى الاستشهاد الـ 18، يمكن وصفها بالأكثر عاطفية لأن السعد الذي علق عمله السياسي، وأودع البلد وأهله العناية الالهية، لم يكن سهلاً عليه العودة والوقوف عند ضريح والده فهو أكثر من يعرف ومن يشعر بما فعلوا به من قبله، ولا بد أنه قال له بغصة: “نم قرير العين. أنت حاولت، فقتلوك. تجرأت، ففجروك. تعاليت، فكسروك. الحمل ثقيل، والمسؤولية كبيرة، ووعد مني متابعة المسيرة، ومحاولة بناء الدولة التي حلمت بها مهما كثرت العقبات، وارتفعت السدود في وجهي، وعصفت الرياح المدمرة. ما لم تنجزه، سأنجزه ولو بعد حين”.

ولأن المحبين كثر، ولم يتمكن الجميع من رؤية السعد، توجهت حشود غفيرة الى “بيت الوسط” حيث أطل عليهم، وحياهم، قائلاً: “أنتم ضمانة لبنان، وأنا أفديكم. سبق أن قلت لكم إن هذا البيت سيبقى مفتوحاً، وإن شاء الله سيبقى مفتوحاً بوجودكم ومحبتكم. أنتم الناس الطيبون الذين بكوا على رفيق الحريري، وهذا البيت سيكمل هذا المشوار معكم بإذن الله. أدامكم الله وجزاكم كل خير، ورحم الله الشهيد رفيق الحريري، ولنقرأ الفاتحة عن روحه”.

وكانت توافدت منذ الصباح الباكر، الى الضريح شخصيات لتلاوة الصلاة عن روح الرئيس الشهيد ورفاقه الشهداء، وتحدث الجميع عن خسارة الرجل التي لا تعوض، وعن حاجة لبنان الى أمثاله في الظروف الصعبة. كما غرّد كثيرون عبر حساباتهم على “تويتر”، مستذكرين رجل الاعتدال والقامة السياسية والوطنية الكبيرة.

ورأى رئيس مجلس النواب نبيه بري في بيان، “أننا في ذكرى الاستشهاد، مدعوون جميعاً الى التحلي بالمناقبية السياسية التي آمن بها الراحل الكبير توافقاً وشراكة وقبولاً بالآخر، بذلك نمنع إغتيال الطائف وإغتيال لبنان الذي استودعه الشهيد رفيق الحريري والشهداء كل الشهداء أمانة في أعناق جميع اللبنانيين ونحفظه وطناً واحداً موحداً لكل أبنائه”.

كما توجهت السيدة نازك رفيق الحريري، بتحية اكبار وشوق وحنين الى روح رفيق عمرها الطاهرة، روح شهيد الوطن ورجل الدولة الاستثنائي صاحب المبادرات الصائبة. وقالت: “نحن في مرحلة دقيقة حرجة وصعبة جداً. نحن في مواجهة مشكلات حياتية لا يمكن معالجتها بالتجاذبات والاصطفافات السياسية. فالساعة اليوم تحتم علينا أن نتحمل مسؤولياتنا التاريخية المشتركة أمام بعضنا البعض وأمام الوطن وكل من موقعه. وعندنا ثوابتنا للانتماء والاستقلال والسيادة ووحدة الأرض والناس والمصير. ويكون علينا بالحوار وبالقرارات الصائبة أن نصون وجودنا ومصلحة الوطن على كل مصلحة فردية. فلنحوّل التجاذبات، رؤى نتعاون على تحقيقها وتطويرها لنبني وطناً سيداً حراً مستقلاً”.

كلمات البحث
شارك المقال