بعد تراجع مبادرته: دعم ماكرون لميقاتي يتجاوز الإصلاح “الصعب”

وليد شقير
وليد شقير

الدعم الدولي الذي حصل عليه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لانطلاقة حكومته من لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الجمعة الماضي ينتظر أن يتعدى السعي الفرنسي إلى تسريع الإصلاحات المطلوبة كشرط لتقديم المساعدات للبنان، وأن يتجاوز محاولة تصحيح الأوضاع الاقتصادية في البلد.

لمجرد قول ماكرون في المؤتمر الصحافي المشترك مع ميقاتي “إن المجتمع الدولي لن يتمكن من مساعدة لبنان قبل إطلاق الإصلاحات، على الأقل”، هو يفترض سلفاً أن هناك عوائق ستحول دونها مثلما حالت دونها في السنوات الماضية بفعل التجاذبات السياسية التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه. فبعض فريق الرئاسة الفرنسية كان توصل في السنوات القليلة الماضية إلى القناعة التي يرددها بعض اللبنانيين، باستعصاء بعض الطبقة السياسية على هذه الإصلاحات لأنها تفرض تغييراً في سلوكها السياسي والإداري والقانوني وفي التركيبة داخل السلطة السياسية.

كثرت الإشارات في تصريحات ماكرون إلى ما سيعترض البرنامج الإصلاحي من عثرات، منها قوله: “لنبقى يقظين، فالطريق ستكون صعبة، نعرف أننا معاً ندرك صعوبة هذه الأمور وصعوبة هذه الإصلاحات”، في سياق تناوله إصلاح القطاع المصرفي بعدما عدّد الإصلاحات البنيوية الضرورية في عدد من القطاعات. فالرئيس الفرنسي اختبر مواقف الفرقاء السياسيين منذ مؤتمر “سيدر” في نيسان 2018 الذي استهلك موفده إلى لبنان الكثير من الوقت من أجل حض السلطة في البلد على اتخاذ الخطوات الأولى. وماكرون بطلبه بعد استقباله ميقاتي، “إطلاق الإصلاحات على الأقل”، يكرر ما سبق لدوكين أن أسمعه للمسؤولين اللبنانيين وللسفير الفرنسي السابق في بيروت برونو فوشي: “إذا أعطيتمونا إشارة بأنكم بدأتم بالإصلاح بالإمكان المباشرة في صرف بعض أموال “سيدر”. إلا أن أي إشارة من هذا النوع لم تصل، ما جعل دوكين ييأس.

ما جعل ماكرون يشكك هذه المرة على رغم قوله إن الطريق ليست مستحيلة، هو ما يتجنب الاعتراف به علناً بأن مبادرته فشلت في الإتيان بالحكومة التي يمكن الاعتماد عليها لـ”إطلاق” الإصلاحات، والتي قاوم التحالف الحاكم بين “حزب الله” والفريق الرئاسي ولادتها بشراسة، مثلما قاوم سابقاً الإصلاحات وربط تنفيذها بمساومات على المنافع وبالاستحواذ على المراكز الإدارية العليا، وبالصراع على القرار في السلطة السياسية.

ماكرون بات يدرك “الصعوبة” في الإصلاحات بعدما انغمس حتى الأذنين، عبر فريقه الديبلوماسي ومستشاريه وأجهزة المعلومات لديه، في تفاصيل العراقيل التي حالت دون قيام الحكومة التي يمكن أن تتناغم مع الإصلاحات، وبات على دراية أكثر من بعض القادة اللبنانيين الحسابات الإقليمية التي تقف خلف أي محاولة لإرخاء قبضة التحالف الحاكم الجامع بين الفساد وبين السلاح عن السلطة، كي يفرج عن الإصلاحات، نظراً إلى تواصله مع العديد من الزعماء في المنطقة وعلى الصعيد الدولي، من أجل تسهيل قيام حكومة الاختصاصيين غير الحزبيين الذين تضمن صفتهم استقلاليتهم عن تلك الحسابات تصحيح ممارسات إدارة الشأن اللبناني على الأصعدة كافة.

السعي الفرنسي خلال الـ13 شهراً الماضية، بعد سنوات من المحاولات قبل انتفاضة 17 تشرين وإفلاس البلد، وُصف من بعض العواصم وقادة الدول بأنه “محاولة ساذجة” لأن الإدارة الإيرانية لوضع لبنان تمكنت من تجويف المبادرة الفرنسية من مضمونها. لكن لم يكن أمام المحاولة الفرنسية سوى مواصلة السعي لصعوبة التسليم بهزيمة رئيسها أمام العراقيل والأفخاخ التي نُصبت لها. والحكومة الجديدة لم تكن لتتشكل لولا اقتناع باريس بوجوب ثني ميقاتي عن الاعتذار عن عدم تشكيل الحكومة، ونصحه بتقديم بعض التنازلات أما معاندة التحالف الحاكم المدعوم من إيران، نظراً إلى مخاطر الاعتذار الثالث لشخصية سنية كلفت بتشكيل الحكومة، وانعكاس ذلك تصاعداً في الصراع الطائفي الذي يأخذ البلد إلى متاهات تفرض إعادة تكوين نظامه السياسي استناداً إلى ميزان قوى يلعب سلاح “حزب الله” دوراً في إرسائه بينما لا بدائل عند المجتمع الدولي لصيغة اتفاق الطائف التي تسعى قوى عديدة إلى نسفه وتكريس معادلة جديدة في الحكم يمكن أن تؤسس لمزيد من الصراع الأهلي بدلاً من حل أزمة الحكم فيه. كما أن الإدارة الفرنسية للشأن اللبناني والذي أعطيت من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية ونسبياً من روسيا امتياز رعايته لأسباب تاريخية وبراغماتية، تدرك على الأرجح خطورة الإمعان في إضعاف الطائفة السنية ولا سيما رموزها المعتدلة، الممثلة بنادي رؤساء الحكومات السابقين ودار الفتوى. هذا فضلاً عن أن الأمر يتعلق بتغيير هوية لبنان.

بهذا المعنى تتجاوز اللحظة التي جمعت ماكرون بميقاتي مسألة الإصلاحات على أهميتها، بعد أربعة أيام على تشكيل الحكومة. ومسارعة ماكرون إلى اللقاء هي أقرب إلى محاولة استدراك المزيد من الإضعاف لموقع رئاسة الحكومة بعدما اضطرت باريس من موقع تراجعها عن خطتها ومبادرتها في تكوين سلطة انتقالية للبنان إلى الطلب من ميقاتي أن يقدم تنازلات للتحالف الحاكم المدعوم من إيران. فماكرون والدولة الفرنسية، وميقاتي ومن خلفه طائفته والقوى الرئيسة فيها التي سمته، يحتاجان بعد صدور التركيبة الحكومية الراجحة كفتها لمصلحة الفريق الحاكم إلى قدر عالٍ من التعاون من أجل الصمود وتقطيع المرحلة بأقل الأضرار على البلد ريثما تتضح التسويات الدولية للصراعات التي فرضت استرهان لبنان لمجرياتها، وريثما تجري انتخابات لبنان التشريعية يراهن المجتمع الدولي على أن تحدث تغييراً ما، وريثما تجري انتخابات الرئاسة الفرنسية أيضاً لمعرفة ما إذا كانت “الأم الحنون” ستواصل رعاية أوضاع لبنان أم لا.

في الانتظار على اللبنانين ترقب ما ستحفل به الحكومة من مماحكات ومحاولات تفريغ العناوين الإصلاحية من مضمونها مرة أخرى، وكذلك مساعي التحالف الحاكم للإمساك بالسلطة أكثر في الإدارة والاقتصاد والقطاع المالي. ولهذا حديث آخر.

شارك المقال