لبنان العرب… انتهى زمن الدلال!

أنطوني جعجع

لماذا يعتقد الرئيس نجيب ميقاتي أنه قادر على استمالة العرب والعالم أكثر من الرئيس سعد الحريري أو أي شخصية سنية ثالثة؟ وماذا في حكومته ما لم يكن مقبولاً في أي حكومة أخرى تنقل بها الحريري مراراً وتكراراً بين قصر بعبدا وبيت الوسط؟

الجواب لا يحتاج إلى الكثير من التمحيص، فلا ميقاتي يحمل اليوم أسباب النجاح في مهمته ولا كان من سبقه يحمل مقومات الفشل، إذ إن كل ما تغير بين الأمس واليوم ان لا شيء تغير، فلا ميقاتي قدم ما لم يقدمه أسلافه، ولا العرب رأوا في ما وقّع عليه الرئيس ميشال عون ما يستحق طي صفحات وفتح صفحات جديدة.

وجل ما في الأمر، أن عون تخلص من الحريري، وأن ميقاتي خلفه، وأن “حزب الله” باع فرنسا ماء الوجه وأعطى ايران “براءة ذمة” يحتاج اليها الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي لنفض يديه أولاً من “إعدامات الثمانينيات” في طهران، وتحتاج اليها ايران ثانياً لوضع بعض الاطباق الديبلوماسية المرنة على طاولة المفاوضات غير المباشرة مع الاميركيين في فيينا، وامتصاص الحملة الدولية ثالثاً على ما يجري داخل المنشآت النووية الايرانية بعيداً من كاميرات المراقبين.

ويكاد لا يختلف اثنان على ان حكومة ميقاتي تبدو اكثر تماهياً مع “حزب الله” وعرّابيه من حكومة حسان دياب، وان ميقاتي نفسه يبدو مديناً لمحور الممانعة وتيار عون اكثر مما كان يمكن ان يعانيه اي وزير اول سواء كان سعد الحريري او سواه في نادي رؤساء الحكومات السابقين.

وليس هناك ما يعكس هذا الانطباع، إلا ذلك “الشعور بالحزن” حيال قوافل المازوت الآتية على اكتاف “حزب الله” من ايران، وذلك الموقف المجبول بالمسايرات حيال تهديدات “حزب الله” التي فرملت التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت، وهما موقفان اعطيا اشارات سلبية في اكثر من اتجاه داخل المجتمعين العربي والدولي اللذين انتقلا من تعامل غير مباشر في لبنان مع حسن نصرالله الى تعامل مباشر هذه المرة يتخطى اي قرار ذاتي يمكن ان تتخذه، اي سلطة اخرى سواء كانت في القصر الجمهوري او في السرايا الحكومية.

والواقع ان ميقاتي تحصّن خلف المبادرة الفرنسية لإقناع الشارع العربي، والسني تحديداً، انه تمكن من انتزاع حكومة مستقلة لا يملك فيها احد القدرة على تعطيلها او التحكم بها، قبل ان يلقى صمتاً عربياً شبه مطبق يعكس رفضاً واضحاً وتشكيكاً خفياً، وقبل ان يسمع من الرئيس الفرنسي نفسه ان هم باريس ليس تشكيل حكومة وحسب، بل بناء وطن، وهو ما لا يملك ميقاتي حياله لا القدرة ولا القرار ولا الوسائل ولا الامكانات في ظل كباش اميركي – إيراني محموم وغياب دعم عربي ملموس.

وما يجهله ميقاتي في واقع السياسة الاقليمية والدولية، ان العالم لا يبحث عن الاشخاص ولا يبني رهاناته على هذا وينأى بها عن ذاك، وهو ما يفسر الاسباب التي تُبقي ابواب الخليج موصدة في وجه لبنان، وتبقي السعودية تحديداً على عناد لم تبده حيال لبنان منذ استقلاله حتى اليوم. مشكلة ميقاتي، على الرغم من نياته الجدية في اكثر من مجال، تكمن في انه ظن ان المشكلة بين الرياض وبيت الوسط هي مشكلة شخصية بين الأمير محمد بن سلمان وسعد الحريري، معتبراً ان تغيير الوجوه لا المواقف هو الكفيل بإزالة جسر الجليد بين لبنان والمملكة او هو، على الاقل، المنطلق نحو بداية إيجابية تعيد المال السعودي الى الخزينة اللبنانية، وتضع القرار السني اللبناني في حماية المظلة السعودية.

ومشكلته ايضا انه راهن على الفرنسيين لتليين الموقف السعودي المتشدد، متجاهلاً ان الاميركيين هم من يملكون مفاتيح الحلول الجوهرية في منطقة الخليج التي تراهن على الترسانة الاميركية وليس الفرنسية في مواجهة التهديدات الايرانية على اكثر من جبهة، وهذا امر غير ممكن اميركياً ما دام ميقاتي لم يبد اي موقف ولم يتخذ اي قرار او خطوة تضعه على مسافة من استراتيجيات “حزب الله” سواء في لبنان او سوريا او اي منطقة ساخنة اخرى في الشرق الاوسط.

ويخطئ ميقاتي في مكان آخر اذا تلمس اي مرونة غير واقعية في العلاقات الاميركية – الايرانية وبنى عليها آمال التغيير، اذ ان كل شيء تقريباً يوحي بأن امام واشنطن وطهران مشوار طويل قد يؤدي الى واحد من امرين: إما تشدد ايراني يقود في النهاية الى مواجهة عسكرية تشارك فيها إسرائيل وتلقى غطاء عربياً واسعاً وهو أمر يحمل الكثير من المغامرات غير المضمونة، واما تنازلات ايرانية على اكثر من مستوى واكثر من ورقة مقابل استعادة الدور الاقتصادي من جهة والدور الديبلوماسي الفاعل والواسع من جهة ثانية، وهو أمر قابل للأخذ والرد بعدما اشتد الخناق على الإيرانيين الذين باتوا محاصرين بتمدّد اسرائيلي من جنوب لبنان الى اذربيجان مرورا بالجولان والخليج والبحر الاحمر وصولا الى السودان.

وليس خفياً في هذا المجال ان العالم لم يجمع على شيء في تاريخ العلاقات الدولية كما اجمع على منع ايران من امتلاك سلاح نووي، معتبراً ان مثل هذا السلاح لا يمكن ان يستقر في ايد امينة، كما هي الحال في الهند وباكستان، ولا يمكن ان يمر لا في حسابات اهل الخليج ولا في هواجس اليهود، حتى لو تلقى هذا العالم من ايران اصدق الضمانات والتطمينات وحتى لو حصل على حق التحكم حصراً بأزرار التفجير وفق محللين عسكريين في واشنطن وتل ابيب معاً.

وحيال هذا الواقع، لا يتوقع المراقبون أن ينجح ميقاتي في اختراق اي دولة خليجية، حتى قطر نفسها التي انقضّت مع الاميركيين أخيراً على موارد تمويل يتلقاها “حزب الله”، في خطوة تؤكد ان هذه الدولة المعروفة تقليدياً بمناصرة خيارات المقاومة الإسلامية، باتت تمشي بين النقاط وبين الالغام خوفاً من دعسة ناقصة قد تحبط حلم “المونديال” الذي حولها الى “دولة كبرى” على غرار دولة الامارات العربية المتحدة بعد “اكسبو ٢٠٢٠” والسعودية بعد حملة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية التي اجراها ولي العهد في السنوات الاخيرة، إضافة الى تحاشي ما اصاب “الاخوان المسلمين” من تراجع وتضييق في كل من المغرب وتركيا، وما اصاب حركة “حماس” في السودان بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة.

وقد يقول قائل، وماذا عن الشريك الآخر اي الرئيس عون في كل ما يواجهه ميقاتي؟ والجواب هنا لا يحتاج ايضاً الى الكثير من التمحيص، فالجنرال يعتبر انه حقق انتصارين شخصيين، الاول انه تخلص من الزعيم السني الاكثر تمثيلاً في بيئته، اي سعد الحريري، والثاني انه حصل على الكلمة الفصل داخل الحكومة، وهي الكلمة التي يراهن عليها مع النائب جبران باسيل للتحكم بأي مسار اصلاحي يمكن ان ينعكس ايجابا على نتائج الانتخابات النيابية المقبلة، وبعدها الانتخابات الرئاسية وامور الخلافة فيها.

ولعل خطيئة ميقاتي الكبرى انه تعامل مع عون كشريكين يملكان البرنامج عينه والطموحات عينها، معتقدا ان القليل من الاصلاحات والمبادرات العاجلة هنا وهناك، على مستوى الكهرباء والبنك الدولي تحديدا، ستكرّسه الزعيم السني الاقوى قبيل الانتخابات المقبلة وبعدها، لا بل ستحوله الى رفيق حريري آخر على المستوى الاقتصادي ورياض صلح آخر على المستوى الوطني، في حين ان عون يعرف انه خسر كل معاركه العسكرية والسياسية وحتى الوطنية، ولم يبق امامه الا واحد من امرين، إما التمديد بقوة الفراغ او قوة السلاح واما التقمص في خليفة يركن اليها تماماً، اي جبران باسيل.

وثمة امر آخر لا يراعيه ميقاتي او على الاقل يتجاهله، وهو ان احدا من السنة لا يستطيع ان يلعب دور الحريري الاب من دون السعودية، وأن عون لا يستطيع ان يلعب دور بشير الجميل من دون الاميركيين، وان لبنان الذي كان يلعب دور الابن المدلل لدى الشرق والغرب معا، قد انتهى الى غير رجعة، وتحول الى اكثر “الفتية” العرب شغبا وخطرا وفسادا وفلتانا.

انهما، اي عون وميقاتي، الواجهة التي تحصّن خلفها حسن نصر الله لا بل المتراس الذي يطلق منه النار على الجميع من دون مواربة هذه المرة ومن دون حياء، وكل أمر آخر ليس الا استهلاكا للوقت الضائع علكا وتخديرا في انتظار ما يتأتى عن ثورة خارجية محتملة يقودها الناخبون المغتربون هذه المرة بعدما تمكن الممانعون من ترويض القسم الاكبر من ثوار الداخل وتحويلهم إما الى رهائن الانقسام والفوضى وإما الى رهائن الخوف والموت.

شارك المقال