أكرم البني: هكذا أتذكر ميشيل

اكرم البني
اكرم البني

مرتان، وقبل أن أتعرف على ميشيل كيلو مباشرة، ملأني اسمه بفرح وفخر: المرة الأولى، في سجن المزة عام 1979 من خلال ما سمعناه كسجناء عن حديثه الجريء مع ممثلي الجبهة الوطنية التقدمية خلال جولاتهم للتعبئة ضد الأخوان المسلمين، حين جاهر بانتقاداته للظلم والاعتقال السياسيين، وطالب فوراً بإطلاق سراح كافة السجناء السياسيين، وسمى رابطة العمل الشيوعي التي كنا ننتمي اليها بالإسم؛ والمرة الثانية في خريف عام 2000 عندما حصلنا ونحن في سجن صيدنايا على ما سمي بيان الـ99 مع إشارات توحي بأن أحد العاملين الرئيسين عليه كان ميشيل كيلو، والذي شكل بنقاطه الديمقراطية الحاسمة خياراً تعويضياً لنا، كمعتقلين شيوعيين، لتجاوز حالة انعدام الوزن التي عشناها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

لكن لم يخطر ببالي بعد خروجي من المعتقل عام 2001 أن يكون ميشيل كيلو أحد الزوار المهنئين. وحين بادر أحد الأصدقاء للتعريف باسمه انتابتني لوهلة حالة ارتباك ووجل، ازدادت انكشافاً بعد أن قدم لي بعض الأوراق والبيانات التي أصدرتها لجان إحياء المجتمع المدني في سوريا، وأضاف: “موقعك معنا ونتشرف بمشاركتك” وهي عبارة كانت بلا شك من بين دوافع قراري الانضمام إلى لجان إحياء المجتمع المدني.

أن تقول لجان إحياء المجتمع المدني يعني أن تقول ميشيل كيلو، ويعني أن تتفهم حرصه على استنباط المهام البسيطة غير المنفرة لتشجيع الناس على المشاركة في الشأن العام وتخليصهم من الخوف والتردد، كما يعني أن تحترم رغبته في منح الأولوية لإيصال أكبر قدر من الأفكار والمعارف لاستنهاض قوى المجتمع المدني وتمكينها من وعي وإنتاج نفسها كهيئة عامة مستقلة نسبياً عن التمثيلات السياسية، ويعني أيضاً التحلي بالشجاعة للاستمرار في النشاط الإحيائي بعد انتكاسة “ربيع دمشق” وعودة المناخات الأمنية والاعتقالات وحظر المنتديات الثقافية، ويعني أخيراً أن تقدر جيداً مثابرته لتنمية وحماية التشابكات التي نشأت بين أوساط واسعة من المثقفين، بما في ذلك المساهمة في إذابة جدران الجليد بين قوى سياسية معارضة، عرفت الجفاء والقطيعة كما تطوير التواصل والتعاضد للمرة الأولى بين الفاعليات العربية والكردية.

لم أشعر مع الصديق ميشيل للحظة بأنني أمام شخص غامض أو مختلف. وأعترف بأن ثمة دوافع لا تزال خفية دفعتني دفعاً لاحترام هذا الرجل، ليس منها فارق العمر على أهيمته، بل ربما روحه القريبة من كل قلب ووضوح دماثته في التعاطي والتفاهم مع الآخر. بل ما زاد هذا الاحترام وداً وتقديراً، أفكاره التي استمر في المجاهرة بها برغم ما تعرض له من ضغوط وتهديدات، وثباته في الدعوة لوحدة كافة مكونات المجتمع السوري القومية والدينية من أجل بناء وطن أفضل وأجمل لكل أبنائه، واضعاً قضية الحرية والمساواة والكرامة في مركز الاهتمام وأمام العديد من المهام السياسية التي كانت ولا تزال تفتن القوى السورية المعارضة.

وطيلة معرفتي بهذا المناضل بدت لي هذه الروح أصيلة وصادقة. لم ألمس في أدائه أية محاولة لاغتنام الفرص. بل أشهد أنه وفي مختلف الأزمات التي تعرض لها، أو تعرضت لها قوى المعارضة السورية، كان يبدي إصراراً لافتاً على وحدة الهموم وأولوية المعالجة المشتركة.

” دق المي بتبقى مي”… أطلق ميشيل عبارته ونحن نهم بالخروج من مكتب أحد قادة المعارضة بعد أن جرى تحويل النقاط الديمقراطية الأربع التي طرحتها لجان إحياء المجتمع المدني  إلى ما يشبه برنامجاً سياسياً يتضمن قضايا تتعلق بالوطن والقومية والاقتصاد، وكأنه بهذه العبارة يريد التأكيد على أن عمل المعارضة لن يخرج من ثوابتها الأيديولوجية والسياسية نحو اعتناق الهم الديمقراطي أساساً. كان يرغب في الإبقاء على المحتوى الديمقراطي للمشروع الذي قدمته لجان إحياء المجتمع المدني تحت اسم إعلان دمشق، بصفته ساحة أوسع لجمع المختلفين فكرياً وسياسياً ولإدارة الصراع بطريقة سلمية، لكن إخفاقه لم يثنه عن متابعة النشاط داخل الهيئات الأولية التي تشكلت تحت اسم “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”.

لم يخف عن السلطات السورية دور ميشيل كيلو المحوري في إنشاء وإظهار ليس فقط إعلان دمشق، وإنما أيضاً “إعلان دمشق بيروت، بيروت دمشق” الذي طالب بعلاقات متكافئة بين لبنان وسوريا، فكان رد فعلها مباشراً وقاسياً، وتم اعتقاله مع عدد من المثقفين، وإحالتهم  إلى محكمة جائرة قضت بسجن ميشيل كيلو مدة ثلاثة أعوام بعد اتهامه زوراً بنشر أخبار كاذبة وإضعاف الشعور القومي والتحريض على التفرقة الطائفية…

لم يتأخر ميشيل عن إعلان انحيازه لثورة السوريين ودعم حراكهم السلمي ضد ما عانوه من قهر وتمييز وفساد. كانت تملؤه العواطف الجياشة والحماسة لشعب قرر أخيراً كسر أغلاله، فشجع الالتحاق بصفوف المتظاهرين والتفاعل معهم وخلق قنوات لمدهم بالخبرات والشعارات المناسبة. بدا كأن الحياة دبت بقوة في نشاطاته فلم يتردد في تفعيل اللقاءات والاجتماعات مع مختلف الناشطين بغض النظر عن خلفياتهم، وساهم بدور رئيس في محاولات لم شمل المعارضة وأولها، تشكيل ما يعرف اليوم بـ”هيئة التنسيق الوطنية” ثم انضم  إلى “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” قبل أن ينسحب احتجاجاً على تقدم ظواهر التسلط والتفرد والفساد والخضوع لإملاءات الآخرين.

وإذا كانت السمة الأبرز من سمات ميشيل كيلو هي منح الديمقراطية الأولوية التي تستحقها على كل شيء، فهناك أبعاد إنسانية وأخلاقية متميزة عنده وما أكثرها، أن في ما لمسته من تميز سياسي في رفضه فكرة الخلاص الذاتي، وتأكيده، رغم ما تعرض له من قمع وسجن وحصار وتشويه سمعة، أنه واحد من المثقفين الذين لن يتخلوا عن دورهم في مواجهة قوى التسلط والعنف والإرهاب أياً كان نوعها، وأن الأوقات العصيبة التي يمر بها المجتمع السوري هي بالذات الأوقات الأنسب كي يثبتوا روحهم التواقة للديمقراطية والحرية والمواطنة.

مع غيابك نكون قد فقدنا الروح الأعمق إيماناً والأكثر ثقة بمهمة الثقافة والمثقفين في خلاص السوريين، من تطلع إلى دور إنقاذي يلعبه المثقفون تجاه مجتمعهم في أوقات المحن والأزمات أو في لحظات التحول العاصفة، ربما كنوع من الإقرار بالوظيفة الخاصة بهم في إعادة بناء وعي نقدي وأفكار جديدة يفترض أنهم أقدر المعنيين ببنائها، أمام ضعف السياسة وعجز أو تردد رجالاتها، فمن غيرك من أتعبنا بتكرار السؤال عن حال المثقفين وما يمكن أن يفعلوه مع تسارع انكشاف أزمات مجتمعهم والفشل البين للمشروع السياسي في وقف التدهور الحاصل أو الإمساك بزمام المبادرة، وهل نتجرأ بعد غيابك على ممارسة النقد اللازم لتقصير غالبية المثقفين في نصرة الديمقراطية عندما أحجموا لفترات طويلة ولأسباب متنوعة عن معارضة أساليب الاستبداد وانعدام الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان، ولم يظهروا قدراً كافياً من التضحية والشجاعة للاعتزاز بالحياة الديمقراطية وحرية التفكير والإبداع والتمسك بمعاييرها، وتالياً للدفاع عن التكافؤ والعدالة والمساواة بين البشر وبين الشعوب والأمم ضد مختلف أشكال التمييز القومي أو الطائفي أو المذهبي؟

ومع غيابك كيف يمكن أن نواجه ونفحم تلك الأبواق الإعلامية المشبعة بالكذب والحقد التي تدافع عن أنظمة لا تزال تعامل شعوبها كالقطعان أو كالجرذان، تستسهل قتل ناسها بأعصاب باردة وتدبج الأكاذيب حين تهتز عروشها عن المؤامرات التي تتعرض لها، أو لنرد على العجزة الذين يتهربون من مسؤولياتهم ومن أدوارهم تحت ذرائع شتى، أهمها الادعاء بقصور مجتمعاتنا عن إنجاز التحول السياسي والديمقراطي، والذين يتأقلمون ويدعون الآخرين  إلى التأقلم مع غياب الحقوق والحريات، مع الفساد، مع انعطاب المواطنة، مع التمييز والترويج لتقاليد العيش بين أطلال التخلف وتشجيع النزعات الطائفية والمذهبية!.

هو ليس مديحاً، مع أن ميشيل كيلو يستحقه، القول بأن هذا الصديق كان من أبرز الأصوات الديمقراطية التي أضاءت ليل سورية الحالك، صوت رفض الانتهاز، لم تكن حساباته تكتيكية بل مبدئية يحدوها رفضه مقايضة دولة الحرية والمواطنة بأي مكسب أو عطاء زائف، كان متخوفاً دائماً من وأد المسار الديمقراطي برايات إيديولوجية استبدادية مغلقة ومفرغة من أي بعد إنساني أو حضاري.

رحلت في الزمن الصعب، الزمن الذي ضاع فيه الوطن وتشوهت فيه ثورة السوريين العظيمة، الزمن الذي يستحق أن نستخلص منه الدروس والعبر، ولعل أهمها، ما ينفع الناس يمكث في الأرض أما الزبد فيذهب جفاءً…

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً