يوم صنع أمين الجميل ميشال عون

عاصم عبد الرحمن

عرف لبنان منذ استقلاله عام 1943 أربعة عشر قائداً للجيش بدءاً باللواء فؤاد شهاب مروراً بالعماد ميشال عون والعماد إميل لحود والعماد ميشال سليمان والذين انتخبوا رؤساء للجمهورية؛ وليس انتهاءً بالعماد جوزف عون. ولا شك في أن لكلٍ منهم تجربته العسكرية الخاصة التي طبعت عهده السياسي حتى جيء به إلى قصر بعبدا تقاطعاً مع ظروف إقليمية ودولية جعلتهم رجال مرحلتهم.

ومن بين القادة الأربعة عشر هناك مَنْ أدى واجبه العسكري في القيادة ومشى، حتى كاد اللبنانيون لا يسمعون باسمه إلا في الأول من آب من كل عام كاللواءين توفيق سالم وعادل شهاب والعمادَيْن جان نجيم وحنا سعيد. لكن ما الذي جعل من العماد ميشال عون قائداً عسكرياً يؤدي دوره العسكري في القيادة ولا يمشي؟

انتهت ولاية الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل في 22 أيلول 1988 على انقسام سياسي وعسكري عمودي في لبنان، فوضى أمنية عارمة، انهيارات اقتصادية واجتماعية والأكثر خطورة كان إطباق الشغور الدستوري على المؤسسات السياسية؛ فراغ رئاسي وشيك؛ مجلس وزراء غير مكتمل ومجلس نواب لا يستطيع الانعقاد؛ فقد كان شعار تلك المرحلة “إما انتخاب مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية تحقيقاً لرغبة سورية بضغوط أميركية وإما الفوضى التي هدد بها المبعوث الأميركي يومها روبرت مورفي”.

وكان الرئيس سليم الحص يتولى وكالةً رئاسة الحكومة إثر اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي قبل ذلك بعام ونيف، وعلى غرار انقسام بيروت بين غربية – إسلامية وشرقية – مسيحية، وكانت الحكومة انعكاساً للانقسام السياسي والمحوري السائد في لبنان، فمن جهة القوى المسيحية المتمثلة بالقوات اللبنانية ومن جهة أخرى القوى الإسلامية الموالية لسوريا والرافضة لأي تعاون حكومي يضم في عداده سمير جعجع المتهم باغتيال رشيد كرامي.

ومع شعور المسيحيين بالخوف من خسارة موقعهم السياسي الأول والخشية من ضياعه في دهاليز التحولات السياسية الإقليمية، استحضر أمين الجميل تجربة الرئيس بشارة الخوري يوم كلّف قائد الجيش آنذاك اللواء فؤاد شهاب بحكومة انتقالية استمرت أياماً معدودة أمّنت انتخاب الرئيس كميل شمعون في 22 أيلول 1952 ومشت، وعاد اللواء على الأثر إلى قيادة الجيش.

وفي هذا السياق، يروي الرئيس أمين الجميل في مذكراته التي وصف فيها ولايته بالشاقة – قائلاً – بعد فشله في تكليف الرئيس شارل حلو تشكيل حكومة انتقالية وكذلك فشل النائب بيار الحلو في تشكيلها إثر رفض القوى الإسلامية المشاركة وعلى إثر تعذر توسيع حكومة سليم الحص لتضم داني شمعون، سمير جعجع وميشال عون: “تصوّرتُ عندئذ أن الخيار الوحيد الماثل أمامي وضع الحكم بين يدي مؤسسة؛ حضرت اثنتان: مجلس القضاء الأعلى برئاسة ماروني هو الشيخ أمين نصّار، رجل منفتح جدير بالمهمة ومتواصل مع كل الفئات، والمجلس العسكري برئاسة ماروني أيضاً هو قائد الجيش العماد ميشال عون. كلتاهما أكثر ائتماناً على وحدة البلاد والوحدة الوطنية، بيد أنني مِلتُ في نهاية المطاف إلى المجلس العسكري، وهو وحده قادر على أن يحمي نفسه والمؤسسات، ويستطيع الإمساك بأمن البلاد، ومواجهة مَن يتسبّب في أي اضطراب ومنع التوتر؛ مهمة تتعذّر على حكومة قضاة لا يسعها الصمود”.

ويتابع الجميل: “دقائق قبل انتصاف ليل 22 أيلول 1988، لحظة انتهاء ولايتي، وقّعتُ بمرارة كبيرة – إنما مرتاح الضمير – آخر مرسوم رئاسي لي برقم 5387، ينصّ على تشكيل الحكومة الإنتقالية برئاسة العماد ميشال عون”.

كان ذاك المرسوم آخر الصلاحيات التي يمكن الرئيس اللبناني ممارستها في النظام السياسي “الرئاسي” وهو الحق في إصدار مرسوم تشكيل حكومة، والتي كانت عسكرية برئاسة قائد الجيش الجنرال ميشال عون الذي أبى أن يكرر التجربة الشهابية بتنظيم انتخابات رئاسية يسلم على اثرها مقاليد السلطة لرئيس منتخب، رافضاً أي سيناريو سياسي أو دستوري لا يؤمن انتخابه رئيساً للجمهورية التي سقطت تحت ركام التدخل العسكري وتناثرت خلف أكياس الرمل السياسي المنتشر في أرجاء البلاد المهشمة.

هناك مَنْ يعتقد أنه لو أبقى الرئيس الجميل على حكومة سليم الحص وإن كانت غير مكتملة المواصفات الدستورية لاستمر النظام الرئاسي وإن جيء يومها برئيس موالٍ لسوريا، ففي الحالتين حكمت سوريا عسكرياً وسياسياً، في مقابل مَنْ يعتبر أن سيناريو اتفاق الطائف كان واقعاً لا محال؛ لكن مما لا شك فيه أن الرئيس الجميل هو مَنْ صنع بذاك المرسوم الرئاسي ميشال عون السياسي الذي بدأت مسيرته لحظة توقيع مرسوم تعيينه رئيساً للحكومة؛ فهل بدّد الجميل هاجسه – كما قال – بحماية موقع الموارنة الأول أم أن العواصف هبّت عكس ما اشتهت سفينته وتالياً السفينة المارونية؟

شارك المقال