آخر معارك الجنرال في مسيرة تقويض الدولة

كمال ريشا
كمال ريشا

قال وزير سابق من الذين أصيبوا بلوثة “العونية” وأنعم الله عليهم بالشفاء منها ولو متأخراً، أن الجنرال ميشال عون مكلف بمهمة تقويض أسس الدولة اللبنانية، وهو يعمل من العام 1989 على تنفيذ هذه المهمة بتأخير دام طيلة فترة نفيه إلى باريس، مشيراً إلى أن عون يمهد الأرض بالخراب، ليصبح بالإمكان تمرير أي حل يتجاوز منطق الدستور وميثاق العيش المشترك.

وأشار الوزير السابق إلى أن سلوك عون، منذ توليه رئاسة الحكومة الانتقالية وحتى اليوم، يتمثل في تطويع الدستور لانتهاك مواده، مع حملة اعلانية تسوق له ما سوغ لنفسه القيام به.

فهو كلف بداية برئاسة حكومة انتقالية مهمتها طبقاً للدستور تأمين انتخاب رئيس للجمهورية، إلا أنه وفور تسلمه مهامه رسمياً بدأ يتصرف كرئيس للجمهورية، على رأس حكومة من وزيرين مسيحيين فقط بعد استقالة الوزراء المسلمين، ويتخذ قرارات حكومية ويوقع مراسيم رئاسية وجوالة ويتخذ قرارات بالحرب على أكثر من جبهة.

بدأت حروب الجنرال في “مدرسة قمر” في فرن الشباك حين اصطدم بميليشيا “القوات اللبنانية”، إلا أنه سرعان ما تم تطريق الاشتباك، بتسليم قائد القوات حينها سمير جعجع، بسطوة الجنرال والألوية التابعة له في المنطقة المسيحية الممتدة من كفرشيما جنوباً إلى المدفون شمالاً.

وذات يوم قرر الجنرال بسط سيطرته على الموانئ اللبنانية كافة، وهو بألويته العسكرية، لم يكن يستطيع العبور عبر حواجز الميليشيات وتلك التابعة للقوات السورية، فأراد السيطرة على ميناء طرابلس شمالاً وصيدا وصور جنوباً، وخلدة، وكل المرافئ الشرعية وغير الشرعية. وليتم الأمر، أعلن الجنرال ما سمي يومها بـ”حرب تحرير لبنان من الجيش السوري”، فكانت أكثر من 139 قرية ومدينة وحي وشارع لبناني عرضة للقصف اليومي بكل أصناف المدفعية من كل العيارات، جراء القصف المتبادل بين ألوية جيش عون والجيش السوري. ولم يتضرر منزل سوري واحد، بل على العكس من ذلك لقد دفع اللبنانيون ثمن تلك الحرب للقوات السورية.

استراح الجنرال بعد تلك الحرب، التي دامت قرابة ستة أشهر عبثاً، وبعد وساطات عربية، جاء من يسر إليه في أذنه أنه إذا استطاع إحكام سيطرته على المنطقة الشرقية، فهذا يسهل سورياً انتخابه رئيساً للجمهورية. يومها بدأ يعد العدة إعلامياً لشيطنة ميليشيا “القوات اللبنانية” والترويج لبسط سيطرة قوى الجيش منفردة على المنطقة الشرقية. وقبل إعلانه ما سماها “حرب الإلغاء” طالب أمهات عناصر ميليشيا القوات بـ”ضبّ” أبنائهم، لأن الجيش سيقوم ببسط السيطرة وإلغاء الميليشيا. وكعادته يعد العدة إعلامياً، وشعاره “شو ما صار انتصار”، ومع أنه خسر معركة إلغاء القوات، فهو يتباهى بـ”انتصار” وهمي، على قاعدة: يكفيه شرف المحاولة.

وقبل عملية 13 تشرين التي أدت إلى إخراجه من قصر الشعب كما كان يسميه، أوفد إليه عميد “الكتلة الوطنية” الراحل ريمون إده من باريس من يخبره بضرورة تسليم مقاليد الحكم للرئيس الياس الهراوي، بتسوية مع الهراوي أو من دون تسوية، لأن قراراً اتُّخذ بسحق تمرده على الشرعية، وستقوم القوات السورية بمهاجمة القصر الرئاسي. يقول الموفد أن الجنرال كان يجلس في قبو القصر مع عدد من معاونيه، فنظر إلى حامل رسالة العميد وسأله عن صحته وصحة العميد وطلب إليه أن يبلغه تحياته، ولم يعر أي اهتمام لرسالة العميد، بل رد في اليوم الذي سبق هجوم 13 تشرين، بحديث قال فيه إنه “ربان السفينة، وإنه هو آخر من يغادر السفينة، وإن اقتضى الأمر هو سيموت هنا في القصر”.

وشاءت الأحداث أن يكون الربان أول الذين غادروا السفينة، تاركاً الجميع في ساحة المعركة يقاتلون نتيجة ما ضخه الجنرال في عقولهم وقلوبهم، في حين كان يختبئ في السفارة الفرنسية ليعلن بعد 45 دقيقة استسلامه والطلب إلى الجنود الموالين له أن يلتحقوا بالجنرال إميل لحود.

في فرنسا التزم شروط نفيه والتزم الصمت طيلة سنوات خمس، ليبدأ بعدها رسائله المسجلة والمحادثات الهاتفيه، مع أنصاره يحرضهم على القوات السورية و”حزب الله” وسائر الميلشيات في الجانب الآخر من الوطن، ويبتدع لهم أساليب “مقاومة” الاحتلال السوري، كما كان يسميه، عبر إطلاق أبواق السيارات بنغمة محددة، وإنشاء بسطات لبيع منتجات لبنانية، بعد أن استفحل حجم البسطات التي يبيع أصحابها من التابعية السورية، منتجات سورية ولبنانية، فضلاً عن كتابة الشعارات على الجدران، وأبرزها “عون راجع”.

أما أطرف ما شهدته تلك المرحلة، ما كان يتناقله أنصاره، من أن الجنرال أخذ معه الدستور اللبناني، ولا يمكن لأحد أن ينتزع منه نسخة الدستور، وتالياً فلا يمكن لأي رئيس يقيم في القصر الرئاسي أن يحكم لأن الدستور مع الجنرال!

رجع عون، عقب انتفاضة 14 آذار المجيدة، التي أشعلت شرارتها دماء الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إلا أنه كان استبق تلك العودة، باتصالات قام بها كريم بقرادوني، ومبعوثون من سلطة الوصاية السورية، إلا أن أجندة الاغتيال المشؤوم سبقت عودة الجنرال الميمونة باتفاق بالواسطة مع سلطات الوصاية السورية.

فور وصوله إلى لبنان استأنف سيره عكس السير، فانتفض على تاريخه وهادن “حزب الله” وسلاحه الذي لطالما وصفه بغير الشرعي، ووقع معه اتفاق “مار مخايل”، واستعان بأدبيات سابقة لنفيه في ما يتعلق بالاحتلال السوري، مبديا استعداده لأفضل العلاقات مع سوريا بعد انسحاب جيشها من لبنان. وهكذا كان، فقصد سوريا مصافحاً من أراد يوما “دق مسمار في نعش والده”، ولم يكلف نفسه عناء سؤال الرئيس السوري عن الجنود والمعتقلين الذين تم اختطافهم في الثالث عشر من تشرين، وهو قرر طوي صفحة حروبه السابقة، منفرداً وعلى حساب دماء شهداء الجيش والمدنيين اللبنانيين الذي قضوا أو تم اعتقالهم على يد جيش الأسد.

هوس الجنرال بالسلطة لم يتوقف يوما، وهو سيد المواقف المتناقضة. فهو لا يعترف بـ”اتفاق الطائف” الذي أنهى الحرب التي اندلعت عام 1975، ولكنه يعترف بالاتفاق اذا كانت النتيجة انتخابه رئيساً للجمهورية. وهو لا يعترف بالمجلس النيابي المنبثق عن قانون انتخابي بعد اتفاق الطائف، ولكن المجلس النيابي يصبح أكثر من شرعي إذا انتخبه رئيساً. وهو لا يعترف بقانون انتخابات ما لم يضمن له الحصول على كتلة نيابية وازنة، ويعترف به بعد النتيجة. وهو لا يشارك في حكومة ولا يمنحها الثقة، ما لم يحدد سلفاً حصته فيها. وهو يرفض منطق المحاصصة، ولكنه يريد حصته في الحكومة التي حددها بحصة المسيحيين، بعد أن نصّب نفسه متحدثاً وحيداً باسمهم. وهو يرفض توزير الخاسرين في الانتخابات النيابية، على أن لا يسري هذا الشرط على الوزراء الذين سيسميهم الجنرال، ويتقدم هؤلاء صهره جبران. يومها أطلق الجنرال مقولته الشهيرة: “كرمال عيون صهر الجنرال، ما تتشكل الحكومة”.

في الحكومات والمجالس النيابية، كانت رئاسة الجمهورية نصب عينيه لا يتوان عن القيام بأي تسوية من أي نوع كان المهم أن يعود إلى قصر بعبدا، وساعده في ذلك، “حزب الله” الذي تفهم وفهم رغبة الجنرال المحمومة في منصب الرئاسة، فعطل البلد سنتين ونصف السنة ليتم انتخابه رئيساً بتسوية تم فرضها على الكتل النيابية، الخصوم قبل الحلفاء.

مسيرة الجنرال التدميرية تواصلت، شعارها “الإصلاح والتعيير”، ومضمونها التدمير الممنهج للمؤسسات والانقلاب على الدستور، وكما فعل حين تسلم الحكومة الانتقالية، أعاد تكرار التجربة كرئيس للجمهورية. فهو يريد مصلحة صهره أولاً والعائلة ثانياً، ولا يتوانى عن تحوير الدستور بتفسيرات “غب الطلب” يقدمها فريق من المستشارين على رأسهم الوزير سليم جريصاتي.

مع الجنرال أصبح تشكيل الحكومة يسبق تكليف رئيسها، ومع الجنرال أصبح الانهيار الاقتصادي تركة وتراكمات ثلاثين عاماً نسي أنه مشارك في السلطة في أكثر من نصفها بسنة، ويتحدث عن التدقيق الجنائي، آخر معاركه الدونكيشوتية، إلا أنه يريد من التدقيق محاصرة المصرف المركزي، عن حق أو عن غير وجه حق، دون سواه من المؤسسات والوزارات التي هدرت أموال اللبنانيين، وفي مقدمها وزارة الطاقة المسؤولة عن أكثر من نصف الدين منذ تسلمها صهره المدلل ومستشاروه من بعده؟

وبعد أربع سنوات ونيف من تولي الجنرال سدة الرئاسة تقوضت أسس الدولة اللبنانية كافة، فلم يسلم القطاع المصرفي ولا التربوي ولا الاستشفائي، ولا الأمني، وأخيراً وليس آخراً الجسم القضائي.

قد تكون معركة الجنرال الأخيرة إلا أنها حتماً ستكون نهاية الدولة العميقة التي عرفها اللبنانيون، منذ نشوء لبنان الكبير، وبعد الانهيار سيصبح بالإمكان فرض حلول على اللبنانيين المنهكين والعاجزين، فيتمم الجنرال مهمته ويستريح.

كلمات البحث
شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً