كتب تاج الدين عبد الحق في إرم:
لم يعد اللبنانيون بحاجة لمن يجيشهم ويدفعهم. فالمعاناة اليومية مع الدولار، والمازوت، والكهرباء، والماء، والنفايات، أكبر من أي أيديولوجيا، وهي بطبيعتها القاسية، قادرة على تجاوز المحاذير مهما عظمت، وحسم التردد مهما كانت مبرراته. لم يعد اللبنانيون ينتظرون كلمة السر من الخارج للتعبير عن مواقفهم، ورؤاهم. والاشتباك الذي جرى في ”الطيونة“ بضاحية عين الرمانة هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير، لكنه لن يكون هو بحد ذاته تصعيدا للأزمات الخانقة المزمنة، بل تنفيسا لاحتقان كبير ينبئ بما هو أعظم وما هو أخطر.
ما هو مطروح كاستحقاق لأزمات لبنان، أكبر من استعراض قوة هنا، وردة فعل هناك، وهو _أيضا_ أكبر من خلاف على تعيين قاض، أو استبداله. فبعد تجربة تشكيل حكومة ميقاتي التي كنا نظنها أم المشاكل، وأن فك عقدتها بداية الحلحلة، أدخلتنا في حلقة مفرغة، تتوالد فيها الأزمات، وتستعصي حولها وبسببها الحلول.
لبنان بحاجة إلى تسمية الأشياء بأسمائها، لا التخفي تحت عناوين فرعية لا يقدم أي منها حلا، ولا نصل بها إلى أي علاج.
مشكلة لبنان بوضوح هي مشكلة بنيوية وهيكلية، وسببها محاولة تحميل الوطن الصغير والضعيف، أعباء أزمات الإقليم، وجعله ساحة لتصفية حسابات المتخاصمين في الخارج، وتحقيق مآربهم وأطماعهم.
تحميل لبنان وزر فشل الآخرين في حروبهم، وجعله ميدانا لإطالة أمد الصراعات التي يعتاشون عليها، فيه ظلم للوطن الصغير، ومزيد من المعاناة لأبنائه، المجبرين على العيش بقهر الإحباط وقلة الحيلة.
الاستقواء بالخارج لا يكلف لبنان ضريبة اجتماعية واقتصادية باهظة فحسب، بل يهدد وجوده ككيان سياسي موحد، ووضع دوره الحضاري على المحك. وهنا وعند هذا المنعطف الذي يمر به لبنان فإن الحديث عن التقسيم والتفتيت، لا يُطرح كصيغة لتوزيع الحصص بين الأفرقاء السياسيين، بل باعتباره آخر الكي لعلاج أزمات اللبنانين كلها دفعة واحدة.
ما يقوله البعض عن التقسيم لم يعد طرحا نظريا فحسب، فقد باتت له تجليات ومظاهر عديدة ليس أولها السلاح المتفلت وليس آخرها المواجهات المناطقية بين القوى السياسية المتصارعة. فقبلها كان تهميش دور الدولة ومنعها من ممارسة دورها الطبيعي في تأمين احتياجات الناس وحل مشكلاتهم المعيشية، وبعدها جرت محاولات لتحييد الجيش ومنعه من القيام بدوره في ضبط السلم الأهلي، بعد تحذيرات محقة أو مفتعلة من أن ممارسة الجيش لهذا الدور تهدد وحدته، وقد تطيح به كإطار جامع يتوافق عليه اللبنانيون إلى الآن.
وفي سياق المخاوف من التقسيم ماذا يمكن أن نسمي فتح الموانئ والممرات غير الشرعية لإمدادات الوقود والغذاء التي وصلت إلى لبنان بذريعة المساعدة على حل الأزمات المعيشية، ليتبين فيما بعد أنها استخدمت بشكل مباشر أو غير مباشر لصالح فريق، ولدعم دور مكون سياسي دون الآخر. ألا يستدعي ذلك التساؤل عن أحقية الأفرقاء الآخرين في انتهاج الأسلوب ذاته وفتح قنوات خارجية لحسابهم ولحساب محاسيبهم وقواعدهم الشعبية؟ ثم ألا يعني ذلك عمليا تقسيما تُحيد فيه الدولة وتُمنع فيه من ممارسة صلاحياتها السيادية، لتتحول السيادة إلى أمراء المناطق وزعمائها؟.
ألم تكن المحاصصة في تشكيل الحكومات اللبنانية المتعاقبة والولادات العسيرة لها، مظهرا من مظاهر التقسيم الذي أصاب تلك الحكومات بالشلل، وجعلها مظهرا شكليا لوحدة الوطن، دون أي ممارسة فعلية تعطي لتلك الوحدة مضمونا فعليا؟. ألم تكن نتائج الانتخابات النيابية الثابتة، الأسماء والتوزيع المناطقي تأكيدا للطابع التقسيمي للحياة السياسية اللبنانية؟.
ما حدث في الطيونة وعين الرمانة، هو خطوة جديدة لتكريس التقسيم السياسي الحاصل فعليا على أرض الواقع، وفتح الباب أمام تقسيم مناطقي تستقل بموجبه المناطق بإدارة شؤونها وبمواردها وإمداداتها، وبتحالفاتها الإقليمية والدولية، وعندها نكون وصلنا بالأزمة اللبنانية المزمنة إلى المفصل الأخير وهو تقسيم المكونات الاجتماعية ووضع قيود على تنقلها بين المناطق، وبذلك نصل إلى الكي الذي كان لبنان يتجنبه والذي يرى فيه البعض شفاء من أمراض لبنان المستعصية، فيما يراه البعض الآخر دواء قاتلا نكتب بعده شهادة وفاة الوطن الصغير.