سوريا: تركيا بين الانسحاب والتصعيد العسكري

حسناء بو حرفوش

في وقت تتواتر فيه التصريحات الرسمية التي تنبئ بعملية جديدة للقوات المسلحة التركية في سوريا، تقترح إحدى القراءات لديبلوماسي تركي أن تسعى الحكومة بعكس السيناريو المتداول، لاستراتيجية تسمح لها بالخروج من “المستنقع السوري”. التحليل للسفير التركي السابق، ناميك تان بموقع “يتكين ريبورت” (yet kin report) الإلكتروني التركي، والذي يفترض أن “الكلفة الباهظة للوجود التركي في سوريا ستحتم على تركيا البحث عن حلول بغياب أي ملامح لنهاية واضحة في الأفق”.

وإذ يلفت تان انطلاقاً من تجربته سفيراً لتركيا لدى الولايات المتحدة إلى الاجتماعات الحاسمة بين الحكومة التركية ونظرائها منذ اندلاع الحرب في سوريا، يشير إلى أنه “بدا واضحاً أوائل العام 2012، أن تركيا ستتكبد تكاليف باهظة بسبب الوضع في سوريا (…) وحذرت التقارير المختلفة التي أرسلناها إلى أنقرة، من أن الحدود مع سوريا قد تتحول إلى أفغانستان أخرى (…) لكن الحكومة أملت حينها أن تنتهي الانتفاضة السورية (…) بالهيمنة التركية. وساعد النهج الذي اعتمدته في دفع الخطاب القومي والشعبوي الذي يساعد على حشد القواعد محلياً. لكن القيادة التركية التي حلمت بتنظيم العالم السني تحت رايتها، تجاهلت الحقائق العرقية والسياسية والقبلية في المنطقة والتي سحقت هذه الأحلام”.

التحيّز التركي

“وأدت هذه السياسة المعيبة لإظهار التحيز التركي بقوة لأحد الأطراف المتحاربة دون الآخر، وهذا ما استبعد البلاد من لعب دور الحكم المقبول دولياً. كما أظهرت تركيا، إلى جانب الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية الأخرى، تحيزاً إزاء الجماعات الإرهابية النشطة في الصراع، إذ سُمح لبعض المجموعات بالمرور بحرية إلى تركيا وتم تسليحها وتجهيزها وتدريبها. إلى ذلك يضاف تجاهل الحكومة التركية لتحذيرات المتخصصين في وزارة الخارجية والأركان العامة التركية ووكالة المخابرات الوطنية من النتائج العكسية المترتبة على الانخراط في عمليات عسكرية عبر الحدود في سوريا بغياب استراتيجية واضحة للخروج من البلاد”.

خطأ فادح

ويتابع السفير السابق: “كان من الواضح بحلول العام 2014، أن تركيا غرقت بشكل مؤلم في المستنقع السوري من دون أي توقعات لخروجها منه. وسجل أحد أكبر الأخطاء التي تركت تردداتها في تركيا والمنطقة، بعد تمكن داعش من احتلال الموصل في العراق وبعض المناطق السورية التي تعتبر فرعاً لحزب العمال الكردستاني المحظور (…) كما تسببت المخاوف التركية بقيام دولة دائمة تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني على الحدود السورية والنهج الفاتر في التعاطي مع تحرير كوباني من داعش، بدفع الأكراد السوريين بعيداً من تركيا إلى أحضان الولايات المتحدة”.

دخول روسيا

“وفي أعقاب هذه التطورات، ساعد الدخول الروسي على تغيير مجرى الأمور لصالح قوات نظام الأسد مما عقّد موقف تركيا، إذ كاد الاصطدام مع تركيا بعد إسقاط مقاتلة روسية ثم الرد الروسي القوي، يتسبّب بكارثة تم بالكاد تفاديها. ولم يكن بالإمكان إطالة أمد المواجهة المكلفة للغاية مع روسيا، مما اضطر الرئيس رجب طيب إردوغان لإنهاء النزاع في حزيران 2016 (…) ثم كانت أول زيارة خارجية لإردوغان بعد محاولة الانقلاب على حكومته بلقاء الرئيس بوتين في سانت بطرسبرغ، واستمرت الصداقة بين الرئيسين لفترة من الوقت، كما اجتمعا بشكل متكرر لمناقشة المصالح المشتركة والسياسات السورية.

سياسات خاطئة

ولكن بعد استفتاء العام 2017 وانتخابات 2018، تغير النظام السياسي في تركيا من الديموقراطية البرلمانية إلى النظام الرئاسي (…) وأصبحت تركيا نتيجة ممارساته أكثر عزلة عن حلفائها وجيرانها وأصدقائها مما كانت عليه في السابق (…) وأدت السياسات الخاطئة التي اقتضت مغازلة الولايات المتحدة عند الحاجة أحياناً ثم التقرب من روسيا في أحيان أخرى، إلى دوامة سلبية من القرارات التي قوّضت أسس العلاقات التركية مع كل من روسيا والولايات المتحدة. ومن أهم الأمثلة على ذلك، قيام تركيا بشراء منظومة صواريخ “إس 400” الدفاعية لتعويض إسقاطها طائرة مقاتلة روسية. وقد أدى هذا القرار بطبيعته لإقصاء تركيا من برنامج مقاتلات “إف-35” والذي استندت إليه استراتيجية الدفاع التركية بالكامل. كما وضع تركيا بمواجهة العقوبات الأميركية، بموجب قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات(CAATSA) ، وهذا ما نتج منه تآكل في الثقة بين حلفاء الناتو بدرجة كبيرة.

أما السياسة الخارجية لتركيا اليوم فيبدو أنها تفتقر إلى رؤية متماسكة. وفوق كل شيء، هناك الأزمة المحلية إذ يعاني الاقتصاد التركي من عدم القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، مع عدم نجاح الجهود المبذولة لإعادة بناء العلاقات مع الحلفاء القدامى مثل مصر وإسرائيل. ونتيجة لذلك، تبحث الحكومة التركية حالياً عن طريقة لتغيير صورتها من خلال محاولة الابتعاد عن الموقف القتالي الذي كانت تنتهجه لسنوات عديدة. ولذلك، غيّرت خطابها لكنها لم تنجح مع ذلك باستعادة الثقة التي فقدتها على الساحة الدولية.

إشراك النظام السوري بشكل مباشر

ومن الصعب توقع مدى قدرة تركيا على المناورة للخروج وحدها من هذا المأزق. وللوهلة الأولى، قد تفترض الخطوة الأكثر وضوحاً إشراك النظام السوري بشكل مباشر في الحل. ومع ذلك، قد تأتي مثل خطوة كهذه بثمن باهظ محليا (…) ولذلك، تفضل الحكومة التركية حشد قاعدتها الجماهيرية من خلال التهديد بعملية عسكرية جديدة في سوريا. لكن موقفها هذا يتزامن ويتناقض مع تليين الدول العربية والولايات المتحدة لموقفها تجاه الأسد، الأمر الذي يهدد بعزل تركيا بشكل أكبر (…) لذلك، سيتعين عليها أن تتقبل أن تحقيق أهدافها غير ممكن من دون استعادة الثقة على الصعيدين المحلي والدولي. فعلى الصعيد المحلي، تحتاج الحكومة للتركيز مجددا على الازدهار الاقتصادي والحقوق المدنية. أما على الصعيد الدولي، فتنقص تركيا العودة إلى تبني التعاون الدولي والسياسات العقلانية: لا بد من أن ينظر المجتمع الدولي مجدداً إلى تركيا كحليف متوقع ومتمسك بالغرب بشكل كبير”.

شارك المقال