الطيّونة… من غدراس إلى معراب!

أنطوني جعجع

“ضب زعرانك من الشارع”… هكذا قيل عن مضمون الاتصال الهاتفي “العاصف” الذي أجراه الرئيس ميشال عون مع سمير جعجع خلال حوادث الطيونة، وهو الاتصال الذي وصفه رئيس حزب “القوات اللبنانية” بالاتصال “المسموم” من دون الدخول في فحواه ومساره…

لكن الواضح، أنّ هذا الاتصال الذي جاء بعد سنوات من القطيعة، يؤكد أن لا شيء تغيّر في نظرة عون إلى عناصر “القوات اللبنانية”، أي النظرة الوضيعة التي يعزّزها النائب جبران باسيل وتياره وحلفاؤه عند كل فرصة سانحة …

ولم ينتهِ الاتصال – التحذير عند هذا الحدّ فحسب، بل أعقبه قرار قضائي من المحكمة العسكرية يقضي باستدعاء جعجع للاستماع إلى افادته، معيداً بذلك عقارب الساعة إلى الوراء نحو ربع قرن، وتحديدا نحو مرحلتين :

الأولى، عندما انقضّ الجنرال عون على “القوات اللبنانية” تحت عنوانين أساسيين :

– القضاء على الميليشيات لمصلحة الجيش اللبناني.

– إسقاط اتفاق الطائف عبر إسقاط أحد أركانه الثلاثة، أي سمير جعجع وقبله البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الذي لجأ إلى مقرّه الصيفي في الديمان.

المرحلة الثانية، جاءت غداة تفجير كنيسة سيدة النجاة، وما تبعها من اعتقالات واتهامات ومحاكمات لا حاجة إلى سردها .

والواضح أيضاً أنّ “الصيادين” لا يزالون هم أنفسهم، بعد ربع قرن و”الطريدة” لا تزال هي نفسها أي سمير جعجع، مع فارق أساسي يكمن هذه المرة في تحويلها إلى “واجهة شيطانية” للانصراف تحت الطاولة إلى التخلّص من طريدة ثانية هي طارق البيطار وثالثة هي الانتخابات النيابية .

وثمة فارق آخر يكمن في الظروف وليس في الوسيلة، إذ أنّ سمير جعجع اليوم هو غير سمير جعجع في الأمس، ليس من ناحية الموقع الحزبي الضيّق، بل من ناحية الموقع الإقليمي والدولي وتحديداً الأميركي، إضافة إلى “الموقع الاستقطابي” الذي تعاظم بعد حوادث الطيونة التي حوّلته خلال المواجهة إلى “بطل” وبعدها إلى “ضحية”، سواء ضحية عند البعض يجب أن تُنصف أو ضحية عند البعض الآخر يجب أن تدفع الثمن…

ولا يختلف إثنان، سواء كان جعجع من صنف الشياطين أو من صنف الملائكة، على أنّ الرجل لا يزال المرجعية السياسية الوحيدة المتبقية من مرجعيات الرابع عشر من آذار والمحتفظة بعلاقة ثابتة مع كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة والمجتمع الغربي، إضافة إلى كتلة نيابية وازنة وقاعدة شعبية متنوّعة، وهو أمر لم يكن متوافراً عام 1994 في ظل الاحتلال السوري وشريكه الإيراني.

ولا يختلف إثنان أيضاً على أنّ جعجع لن يخوض تجربة السجن مرة جديدة، وقد لا يتوانى عن اللجوء إلى أي نوع من المواجهات التي يعتبرها مصيرية ومفصلية لمنع ذلك، وأنّ أنصاره لن يقفوا على الأرجح متفرّجين هذه المرّة كما فعلوا يوم ساقوا قائدهم من غدراس إلى وزارة الدفاع من دون ضربة كف، مما يعني أنّ أي محاولة لاقتحام معراب، مهما كانت مبرّراتها القانونية والدستورية والأمنية قد تحمل في طياتها بذور مواجهة مع الجيش في مكان، وحرب شوارع في مكان آخر، واعتراضاً عربياً ودولياً في أكثر من مكان .

وليس من قبيل المصادفة أن يلجأ قائد الجيش العماد جوزف عون إلى بكركي، لإبلاغ البطريرك مار بشارة بطرس الراعي أمرين: أنّ الجيش لن يكون قادراً على اقتحام معراب من دون غطاء كنسيّ، وأنه لن يكون قادراً على ذلك أيضاً إذا حصل جعجع نفسه على غطاء كنسيّ. وهذا ما حصل فعلاً من خلال موقف من بكركي جاء لمصلحة جعجع إلى حد كبير، ووضع الرئيس عون و”التيار الوطني الحر” و”حزب الله”، في موقف حرج يتمثل في أنّ الوصول إلى معراب يجب أن يمر ببكركي أولاً .

ولا يبدو أنّ الجيش اللبناني، المدين في عتاده وصموده النوعي والمادي للولايات المتحدة، في وارد الانقضاض على واحد من حلفائها الأساسيين، هي التي يقال أنها تراهن عليه للوقوف في وجه “حزب الله” وتجريده من سلاحه، ولا يبدو أنّ العماد عون، في قرارة نفسه، في وارد الوقوع في فخّ دمويّ على الساحة المسيحية أو في توريط الجيش في حرب أهلية تستنزف ما تبقى له من مقوّمات صمود وعوامل تماسك داخل المؤسسة العسكرية، وربما تقطع عليه الطريق إلى قصر بعبدا، خصوصاً أنّ التحقيقات التي يجريها لم تحمّل “القوات اللبنانية” حتى الآن أي مسؤولية عن القتلى الذين سقطوا في الطيونة.

وثمة واقع آخر يفرض حضوره في هذا المشهد، وهو أنّ “حزب الله” فقد الكثير من صدقيته لدى الغالبية العظمى من اللبنانيين، لا سيما بعد الاستراحة الطويلة التي يلتزمها منذ حرب تموز عام 2006، التي وظّفها للسيطرة على الداخل اللبناني، والغوص في لعبة الفساد والترهيب والتهريب والاغتيال، إضافة إلى التورّط علناً في حروب لا تلقى إجماعاً لبنانياً، ولا تصبّ في خدمة لبنان على كلّ المستويات… لكن أكثر ما انعكس سلباً على هيبة حسن نصرالله ورصيده، هو الحملة الشعواء التي يخوضها ضد المحقّق العدلي والتي بدا فيها المسيحيون وكأنهم في حسابات “حزب الله” مجرد أرقام لا تستأهل أي عدالة أو حقيقة أو محاكمة أو انتقام، إضافة إلى الاطلالات المتواصلة التي تعرّض فيها لبعض المقامات الدينية المسيحية وفي مقدّمها البطريرك الراعي، وذلك بغطاء من “التيار الوطني الحر” الذي لم يتوانَ يوماً عن “تحييد” “حزب الله” والحلول محله في أي مواجهة مع السنّة أو مع مسيحيي المعارضة أو أي فريق آخر لا يدور في فلكه …

ولم يكن نصرالله أكثر قبولاً لدى السنّة، كما القسم الكبير من الدروز، ليقع بعد حادثة الطيونة حيث وقع بشار الأسد بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أي في حفرة طوّقه فيها الشعب اللبناني المحموم والمجتمع الدولي الحانق، ودفعه إلى الخروج من لبنان وخسارة واحدة من أثمن أوراقه الإقليمية وربما أثمنها على الإطلاق…

وانطلاقاً من هذا المشهد، لا بدّ من السؤال: هل يمضي محور الممانعة في “طحشته” على جعجع و”القوات اللبنانية” وعلى القاضي طارق البيطار، مهما كانت النتائج والعواقب، أم يعيد خلط الأوراق في انتظار فرصة أخرى سانحة تقتل الناطور ولا تفني الغنم؟

حتى الآن، لا شكّ أنّ حسن نصرالله أوقع نفسه في خطأ استراتيجي جسيم، عندما نزع عن نفسه لقب “المقاوم” وغاص في الزواريب الضيّقة، مهدداً جعجع وبيئته بمئة إلف مقاتل بدلاً من أن يهدّد إسرائيل بمئة ألف صاروخ، وهو ما تنبّه إليه ولو متأخراً واستدركه في الأمس عندما لوّح بالقوة لحماية الحدود البحربة والثروة النفطية إذا لامست دائرة الخطر .

في اختصار، لا يحتاج الأمر إلى الكثير من التحليل، فمحور الممانعة أمام واحد من ثلاثة خيارات لا رابع لها: إما المضي في الخيار العسكري في مواجهة “القوات اللبنانية”، وهو خيار ربما يقضي على جعجع جسدياً ويحوّله إلى شهيد آخر وربما يعوّمه شعبياً ويحوّله إلى بشير آخر، وإما إلغاء الانتخابات النيابية وهو أمر سيقضي على طموحات جعجع طبعاً، لكنه سيقضي حتماً على أي فرصة عربية أو دولية قد تعيد الحياة إلى لبنان كدولة وكيان، وإما إعداد ملفات أمنية تؤدّي إلى قرار بحلّ حزب “القوات اللبنانية” ومنعه من ممارسة أي دور سياسي…

فماذا سيختار، خصوصاً أنّ التراجع عن الأمور الثلاثة سيعني حتماً خسارة جماعية بحجر واحد؟

إنه المأزق الكبير الذي يضع فائض القوة في مواجهة صاحبه، إذ لا يمكنه إطلاق النار إلى الأمام تجنباً لحرب لا تناسبه، ولا إلى الوراء تجنباً لما قد يكون نوعاً من الانتحار الذاتي.

وجل ما حصده “حزب الله” وحركة “أمل” مما جرى في ذاك الخميس الأسود، أنه ابتكر سمير جعجع جديداً استفاد من أخطاء خصومه للمرة الأولى ربما، وفي فترة مفصلية حسّاسة، خلافاً لما كانت عليه الحال في السابق.

وفي الانتظار، هل يكون أحد المراقبين الديبلوماسيين على حق عندما قال تعليقاً على ما يجري منذ الخميس الماضي: “لا شكّ أنّ (حزب الله) عالق في أمر ما في تفجير المرفأ، أمر لا يستطيع تحمّله ولا تبريره ولا التساهل حياله، حتى لو دمّر لبنان على رؤوس الجميع”. وأضاف: “نتعامل مع قيادات لبنانية متهوّرة لا تتعلّم من أخطائها، ولا تتقن شيئاً خارج قرقعة السلاح”. وذهب المراقب الديبلوماسي بعيداً إلى حد القول: “إنّ حسن نصرالله لم ينظر في الوقت عينه إلى ما جرى في الطيونة على أنه ضربة أمنية غير متوقعة، بل جرأة من فريق أو افرقاء أقدموا على مواجهة رجل يريد من الناس أن يخافوه لا أن يحبّوه أو يتبعوه. وهو أمر لا يقوى على احتماله ولا المرور به مرور الكرام.”

شارك المقال