لم يكن لقاء وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد بالرئيس السوري بشار الأسد، التواصل العربي أو الخليجي الأول بالشام، ولن يكون الأخير سراً أم علانيةً. ذلك أنّ جهوداً عربية كبيرة تُبذل على أكثر من صعيد لإعادة سوريا إلى الحضن العربي، وتالياً استعادة دورها الريادي متعدّد المجالات والأوجه، اعتادت أو كُلفت أن تلعبه في ملفات عدة أبرزها الملف اللبناني الذي استلذّت توليه وأجادت الإمساك به طوال ثلاثين عاماً، برعاية أميركية ورضىً أو تفاهم سعودي أرسى نظام الاستقرار السياسي الذي وضع حداً للحرب الطائفية التي اندلعت عام 1975.
يقود الملك الأردني عبد الله الثاني مسعىً ديبلوماسياً جباراً على المستويين العربي والدولي لإعادة فتح قنوات التواصل مع النظام السوري وفق قاعدة العرض والطلب الاقتصادي والسياسي. فقد اجتمع لهذه الغاية بالرئيس الأميركي جو بايدن الصيف الفائت، شارحاً الأسباب الموجبة لذلك، وعارضاً خريطة طريق حل تسلسلي. كما استعرض حجم الخسائر المتشظية في عمق الداخل السوري وجوارها العربي بخاصة في الأردن والعراق ولبنان نتيجة تحمل هذه الدول أعباء النزوح وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية، والأهم الأمنية. ويبدو واضحاً أنَّ هذه الثورة التفاوضية بدأت تؤتي ثمارها عبر إعفاء الدولة اللبنانية من تبعات “قانون قيصر” المفروض على سوريا في ملف الغاز المصري والكهرباء الأردنية.
تشابكت الملفات العربية، الإقليمية، وذات البعد الدولي، حتى أصبحت أمام واقع يوجب التواصل مع النظام السوري بشكل مباشر لبدء فكفكة عقدها الآخذة في المزيد من التأزم. وإذا كان أهم هذه الملفات هو الوجود الإيراني في المنطقة، معالجة ملف النزوح، مواجهة المنظمات الإرهابية، مسألة ترسيم الحدود في أكثر من منطقة، قضية الجولان وشكل العلاقة مع إسرائيل وغيرها، فأين لبنان – الذي فشل أو أُفشل في حكم نفسه عقب الخروج السوري عام 2005 – من العودة العربية إلى سوريا؟ وكيف سيكون موقف “حزب الله” في ما لو أُعيدت سوريا إلى لبنان، أقله سياسياً، في سياق التفاهم العربي المتوقع وعلى وقع الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة العربية؟
لا شك أنّ التقارب العربي السوري هو جزء من مسار سياسي كان بدأه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صاحب الشأن الأكبر والنفوذ الأقوى على الأرض السورية، وهو لن يفرّط بأحد أهم شواطئ البحر المتوسط ذي البعد الاستراتيجي لروسيا التي فقدت وهجها العالمي إثر انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر العام 1991، وعلى الضفة المقابلة للهيمنة الروسية، هناك النفوذ الإيراني المتغلغل في مفاصل النظام السوري. كيف لا، وهم مؤمنون بأنه لولا تدخلهم عسكرياً ولوجيستياً لسقط بشار الأسد منذ الشهر السادس أمام الشعب السوري الثائر، كما أنه لو لم يذهب “حزب الله” مدافعاً إلى هناك لكان الإرهاب يجول ويصول في مختلف أرجاء لبنان. روسيا اليوم التي تكبّدت مليارات الدولارات في سبيل الدفاع عن نظام بشار الأسد، ليست على استعداد لتقاسم غنائم سوريا مع أحد، بخاصة إيران التي تعتبر نفسها الأَوْلى في موسم القطاف الذي حرث أرضه وزرع بذوره قائد فيلق القدس الثوري الإيراني قاسم سليماني الذي لطالما تفاخر بامتلاكه النفوذ السياسي والعسكري في أربع عواصم عربية هي: بغداد، دمشق، بيروت وصنعاء.
وتتحدث المعلومات عن الخطة التي يروّج لها ويسعى إلى تطبيقها العاهل الأردني مع الشركاء الدوليين والعرب، تفضي إلى إعادة تطبيع العلاقات العربية السياسية والاقتصادية مع سوريا وفق أرضية الاعتراف بشرعية المصالح الروسية هناك. يقدّم العرب التمويل الضروري لإعادة النهوض بالاقتصاد السوري من خلال استثمارات ترعى روسيا تنفيذها في أكثر من منطقة، في المقابل تبتعد سوريا من إيران تدريجياً حتى تبعدها من الأرض السورية نهائياً، على ألَّا تحتفظ سوى بوقار معنوي من قبل النظام؛ فالأهم أن تحدَّ من نفوذها الذي سيطال أذرعتها في العراق ولبنان واليمن. وهنا تتقاطع المصالح العربية – الروسية في إبعاد العدو المشترك، وما القصف الإسرائيلي للمواقع الإيرانية إلا خير دليل على الضيق الروسي ذرعاً بالوجود الإيراني، إذ إنّ روسيا تزوّد إسرائيل بخرائط المواقع العسكرية الإيرانية لتتولى قصفها ممانَعةً لخطرها الداهم.
قد ترغب الولايات المتحدة – التي لا تزال تراوغ بأسلوب ديبلوماسي محايل بالسير في تطبيع العلاقات مع سوريا – في إعادة تلزيم الملف اللبناني للسوريين نتيجة استقرار سياسي مدته ثلاثة عقود عرفه اللبنانيون الذين يبدو أنهم فشلوا في حكم أنفسهم منذ الشغور السوري في لبنان. وعلى الرغم من اعتراض الشريحة الأوسع من اللبنانيين على عودة النفوذ أو الوصاية السورية، إلا أنه في حال أرادت الولايات المتحدة ومن ضمن التفاهم العربي – الدولي مع سوريا، فسيكون لها ما تريد. وهي ليست المرة الأولى، بخاصة أنّ لإسرائيل مصلحة استراتيجية في بقاء بشار الأسد على رأس النظام والنفوذ في الجوار، بدليل سقوط أربعة زعماء في ما عرف بالربيع العربي ووحده بقي متربعاً على عرش الحكم الممدد والمجدد…
وإذا كان الاعتراض على العودة السورية إلى لبنان سيأتي من قوىً عُرفت بعدائها ومواجهتها لسوريا ليس مستغرباً، فالمفاجأة قد تأتي من رفض “الحزب” الذي يفترض أنه ذهب لمحاربة المنظمات الإرهابية وحماية نظام بشار الأسد؛ فهل يطبق مقولة “مرحباً بجاري، أنت في دارك وأنا في داري”؟
ملأ “حزب الله”، ومن خلفه إيران، الفراغ السياسي وحتى العسكري الذي خلّفه الانسحاب السوري من لبنان، على خلفية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واستطاع طوال 16 عاماً التحكّم بالقرار السياسي اللبناني، والتسرّب أكثر إلى أعماق الدولة، مما جعل لبنان ساقطاً بأكمله تحت سلطة الوصاية الإيرانية. وإذا كان الشرط العربي شبه الوحيد لتطبيع العلاقات مع سوريا هو إبعاد الإيرانيين عن أراضيها، مما سينسحب على وجودها في معظم المنطقة العربية، وتالياً الحد من نفوذ أذرعتها المنتشرة في لبنان واليمن والعراق، فلا شك أنّ “حزب الله” سيعود ضعيفاً من سوريا بفعل تغييب الداعم الإيراني له وبالتالي التزام بشار الأسد – إن كان له ما يريد من العرب – بقطع طرق إمدادات “الحزب” الإيرانية وهي حادثة تكرّرت غير مرة إذ حجز ماهر الأسد؛ شقيق الرئيس وقائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري، وعلى الرغم من قربه من الإيرانيين؛ أموالاً آتية من إيران إلى “الحزب”.
إذاً سيرفض “حزب الله” بطريقة ما، لا بل سيقاوم تجدّد الوصاية السورية على لبنان التي ستحجم دوره السياسي والعسكري – الذي بناه من بارود بواريده – بخاصة على وقع انسحابات إيرانية من المنطقة، لتصبح خاصرته هزيلة فتتبعثر المكاسب التي سعى إلى مراكمتها بكل ما أوتي من وسائل مشروعة وغير مشروعة خلف أكياس رمل الاتفاقات المصلحية والتحالفات المستجدة.
ربما سوريا المدمرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً غير سوريا القوية التي أمسك العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بيد رئيسها آتياً به إلى لبنان وآملاً بعودتها إلى الحضن العربي. فهي هذه المرة لا بد أنها ستتخلى عن سياساتها المراوِغة في الأخذ بلا عطاء وتضحّي بعلاقتها الاستراتيجية مع إيران، في مقابل انفتاح عربي مطلق. تحوّل أميركي بدأت ملامحه تتظهّر من خلال بعض الإعفاءات المترتبة عن “قانون قيصر” الذي سيسقط حكماً عندما يحين موعد التسوية المرتقبة، وهو ما سيجرّ مزيداً من الدول المطبِّعة مع سوريا، والوجود الروسي الباقي والمتمدد والذي يرفض هو أيضاً الوجود الإيراني على الأرض السورية.
فهل تعود سوريا للعب دور ما في لبنان نتيجة العودة العربية المتبادلة، وبالتالي يعود “حزب الله” كأي حزب لبناني آخر، جزءاً من السلطة، لا كل السلطة؟ أم للديبلوماسية السورية غايات أخرى في نفس بشار الأسد؟