المخاوف من تسليم لبنان لإيران تستنفر تحركاً روسياً

وليد شقير
وليد شقير

لماذا قال رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط إنه إذا سلمنا البلد، كل البلد، الى المحور السوري الإيراني، تكون غلطة فادحة. لا أستطيع وحدي ومن دون الشيخ سعد (الحريري)، أن نواجه سلمياً ونقاوم سلمياً، وأن نقول كفى”؟

صحيح أن جنبلاط قال هذا الكلام في معرض دعوته زعيم تيار “المستقبل” رئيس الحكومة السابق سعد الحريري إلى العودة إلى البلد، معتبراً أن غيابه عن لبنان سيؤدي إلى هذه النتيجة، إلا أن الأسئلة والمخاوف من تسليم البلد للنفوذ الإيراني في إطار ما يتردد عن تسويات في المنطقة قد تؤدي إلى تقاسم للنفوذ بين القوى الدولية والقوى الإقليمية هو بمثابة “ستالايكو” موقت جراء إعطاء الأولوية للتفاهم على إحياء الاتفاق النووي في محادثات فيينا، أخذت تقلق بعض الأوساط اللبنانية، مقابل مخاوف معاكسة لدى أوساط قوى الممانعة من تصاعد الضغوط على إيران و”حزب الله” ليس فقط في ما يخص الملف النووي، بل أيضاً في ميادين نفوذ طهران و”الحزب” والحروب التي يخوضانها. 

وإذا كان النوع الأول من المخاوف التي عبّر عنها جنبلاط تخشى تسويات دولية تهمل لبنان وتتركه لقمة سائغة لسطوة إيران على السلطة السياسية، فإنه ينطلق مما يشاع عن قبول الولايات المتحدة الأميركية بأن تقتصر محادثات فيينا على الملف النووي وأن يترك البحث بالنقطتين الأخريين اللتين كانت واشنطن والدول الغربية شددت على أن تشملهما، وهما برنامج طهران للصواريخ البالستية، وتدخلاتها في الإقليم وحروبه التي تزعزع الاستقرار إلى مرحلة لاحقة، فإن قلق “حزب الله” من تصاعد الضغوط عليه وعلى إيران والتي تدفعه إلى التشدد، يرسم نوعاً معاكساً من المخاوف والهواجس. وهذا القلق عبر عنه الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله مرات عدة في خطبه الأخيرة وكرره في كلمته أول من أمس الجمعة حين قال: “هناك هجمة كبيرة جداً على “حزب الله” والجيوش الإلكترونية مسخّرة ليلاً ونهاراً” لذلك، في وقت لم يتوقف هو وقادة الحزب عن التصريح بأن الولايات المتحدة الأميركية تعمل على تغيير المعادلة السياسية في البلد ضد محور المقاومة، عبر الانتخابات النيابية ومن طريق ما يسميه نصرالله ورئيس كتلة نواب “الوفاء للمقاومة” محمد رعد “مجموعات السفارات”. وازداد قلق الحزب، على رغم حديثه الدائم عن “الانتصارات” التي يحققها في الإقليم، ولا سيما في اليمن وسوريا، مع المخاوف التي أبداها من أن يقود التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت إلى اتهامه بالتورط في حماية تخزين أو نقل كميات من نيترات الأمونيوم التي تسببت بالانفجار الزلزالي الذي دمر زهاء نصف العاصمة اللبنانية وأدى إلى سقوط أكثر من مئتي ضحية… كما أن الحزب على رغم افتخاره بقدرته على مواجهة العقوبات التي تفرض عليه وعلى من يتعامل معه مالياً، فإن الإجراءات المتوالية لدول غربية بوضعه على لائحة المنظمات الإرهابية، وآخرها أستراليا، يشعر أن الخناق يضيق عليه لاتساع التعاون الدولي الذي يستهدف تمويله وتحرك مناصريه.

إذاً، هناك نوعان من المخاوف المتناقضة التي تتحكم بالسلوك السياسي في البلد، وتفرض نفسها على المسرح السياسي.

إلا أن المخاوف من تسليم البلد للمحور الإيراني السوري تستند إلى أن سطوة الحزب التي تعايشت معها قيادات تعارض خياراته الإقليمية، أخذت تستند إلى أصداء تتردد في بعض الأروقة اللبنانية والعربية عن أن إدارة الرئيس جو بايدن في الولايات المتحدة الأميركية تعتمد التوجه نفسه الذي اعتمده الرئيس السابق باراك أوباما، لأن أولويتها هي العودة إلى الاتفاق النووي وإلى امتثال إيران ببنود النسخة التي جرى التوصل إليها في العام 2015 لا أكثر، وأن همها على الصعيد الدولي هو التفرغ للمواجهة مع الصين ومع روسيا في أوروبا. أما في ما يخص الشرق الأوسط، فهمها هو الاكتفاء بالتسويات التي تؤمن حداً أدنى من المصالح لها على صعيد الطاقة وممراتها، والتي تحفظ أمن إسرائيل، بالتفاهم مع روسيا في سوريا حيث سلمت لموسكو برجحان كفة نفوذها فيها، مع إقامة نوع من توازن القوى بين إيران وخصومها لا سيما الخليجيين. وقد تولي أهمية لضبط التمدد الإيراني في اليمن لأسباب تتعلق بأمن السعودية وبممري باب المندب ومضيق هرمز البحريين، الأساسيين للتجارة العالمية ولسوق النفط. 

مصدر النوع الأول من المخاوف والذي أخذت أوساط سياسية تتداول به، أن أقصى ما يمكن للولايات المتحدة أن تقوم به ضد تنامي النفوذ الإيراني على قراره السياسي هو تقديم المساعدات الإنسانية إزاء الأزمة الاقتصادية المالية والمعيشية الخانقة التي يمر بها اللبنانيون، ودعم الجيش كي يبقى صامداً وقادراً على منع الانفلات الأمني الذي يقود إلى انهيار شامل قد يشكل خطراً على الأمن الإقليمي، الذي قد تستغله إيران في مواجهة إسرائيل. ويشير أصحاب هذه القراءة للمخاوف من تسليم لبنان إلى النفوذ الإيراني إلى أن الحرص الدولي على أمن إسرائيل أدى إلى تجاوب إيراني ولو نسبي بانكفاء قواتها والمليشيات التابعة لها عن جنوب سوريا نحو مناطق الداخل السوري، وأن المقايضة على ضمان أمن إسرائيل في سوريا ينسحب على الجبهة الجنوبية اللبنانية مع الدولة العبرية، مقابل تقنين النفوذ الإيراني في سوريا مع ترك معالجة تداعياته على الصيغة النهائية للحكم في بلاد الشام لموسكو، والتسليم بقدرة “حزب الله” على الاحتفاظ بنفوذه في لبنان والتعايش مع هذا النفوذ طالما القوى السياسية اللبنانية قاصرة عن مواجهته. ومن الدلائل في هذا السياق أن فرنسا صاحبة المبادرة الأولى التي سعت إلى حلول في لبنان تعيد إليه شيء من التوازن، عادت فسلمت بعجزها عن ذلك بقبولها بقيام حكومة استطاع “حزب الله” أن ينسف جوهر المبادرة الفرنسية في عملية تأليفها.

المتخوفون من هذه التوجهات في شأن لبنان تنامى قلقهم من تسويات ولو ظرفية تسلم بالسطوة الإيرانية على المؤسسات اللبنانية منذ أن باشر البطريرك الماروني بشارة الراعي، وهي تصاعدت أخيراً بارتفاع أسهم التقديرات عن أن الحزب يتجه عبر التأزيم الذي يشل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إلى التسبب بتفاقم الأزمة الاقتصادية المعيشية، وإلى إفهام الدول التي تناصبه العداء بأن الكلمة الأخيرة له. فإصرار الحزب على إبقاء الأزمة مع السعودية ودول الخليج العربي مفتوحة من دون معالجة بدءاً باستقالة وزير الإعلام جورج قرداح شكل محطة تحدٍ أساسية في وجه هذه الدول بحيث يمعن في إبعاد لبنان عن الحضن العربي. وهو ما يزيد من ابتعاد دول الخليج عن الوضع اللبناني باعتباره منطقة نفوذ إيراني. وليس مستبعداً أن يكون التشدد الخليجي رسالة إلى الأميركيين برفض تسليم مقاليد البلد لطهران. 

ومن المفارقات في شأن الموقف الدولي إزاء أزمة لبنان المستعصية أن القيادة الروسية أخذت تستشعر خطر الاندفاعة الإيرانية في لبنان. فموسكو تعتقد أن على إيران أن تتوقف عن استخدام الساحة اللبنانية للهجوم على دول الخليج وتقويض أمنها. وتعتقد أنه بلد منهار ووضعه السياسي مضطرب تملأه التناقضات وتخشى من أن استمرار الضغط الإيراني على التركيبة اللبنانية سيؤدي إلى انفجار فيه يحمل مخاطر جدية لتحوله إلى ساحة اقتتال طائفي، إذا حصل يؤثر سلباً على سوريا والوجود الروسي فيها وعلى المحيط الإقليمي. ولا يخفي المسؤولون الروس انزعاجهم من أنه لم يبقَ غيرهم من القوى الدولية يضغطون من أجل قيام حكومة اختصاصيين وتكنوقراط من المستقلين غير المنتمين لأحزاب من أجل انتشال لبنان من أزمته لأنها الوحيدة التي كان يمكن أن تنتج حلولاً اقتصادية ومالية فيما الأحزاب تدخل في صراعات تعيق هذه الحلول الجوهرية لاستعادة الاستقرار، وأنهم لهذا السبب دعموا الحريري علناً في رئاستها نظراً إلى صفة الاعتدال التي يتمتع بها. لكن الجانب الفرنسي خذلهم واتجه نحمو التسوية التي تقاطع فيها مع الجانب الإيراني بالعودة عن بنود مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون.

وتحاول موسكو التي تراقب تفاصيل التطورات الداخلية لا سيما منذ أحداث الطيونة الدموية، استباق أي تدهور إضافي في الأزمة ينعكس المزيد من الإخلال بالتوازنات اللبنانية، في اتصالاتها مع سائر القوى الدولية والإقليمية حيث يزور الممثل الخاص للرئيس الروسي ميخائيل بوغدانوف طهران اليوم من أجل نقل الرسالة إلى القيادة الإيرانية ، بأن المزيد من التأزيم الذي يتصدره “حزب الله” في لبنان يلقى معارضتها.

وبموازاة التحرك الروسي في اتجاه إيران لم تغفل موسكو التواصل مع السعودية ودول الخليج ناصحة بعدم ترك لبنان لاعتقادها بأن الفراغ الذي تتركه فيه ستملأه طهران لتعزز وجودها أكثر فيه.

شارك المقال