احتمالا “فيلتمان” واحتمال المقاومة..

حسن الدّر
حسن الدّر

أمام كلّ استحقاق يمرّ به لبنان تتكرّر عبارات تصف دقّة المرحلة وخطورتها، مثل: “مفترق طرق”، “مرحلة مفصليّة” أو “لحظة مصيريّة، وتكون الغاية منها، عادةً، رفع السّقوف السّياسيّة وتجييش القواعد الجماهيرية بغية تحقيق الأهداف المنشودة.
وفي هذه “المرحلة الاستثنائية” في تاريخ لبنان (وهذه أيضًا عبارة مكرّرة) تحتلّ الانتخابات النيابية، المفترض إجراؤها في شهر آذار أو أيّار 2022، صدارة الاهتمام الدّوليّ والمحلّي، وربّما تنطبق على هذا الاستحقاق كلّ العبارات الدّالة على أهميّة وخطورة واستثنائيّة الحدث.

ولذلك أسباب معلنة ومعروفة، فملفّات المنطقة برمّتها موضوعة على نار التّسويات، وبالتّالي، فإنّ الخيارات الحامية مؤجّلة إلى حين اتّضاح صورة المفاوضات، والانتخابات البرلمانية جزء من المواجهات الباردة التي تتبناها، حاليًّا، أميركا وفرنسا لتعديل موازين القوى على الساحة اللبنانية، بعد فشل الحروب العسكريّة، أملًا بتغيير الواقع السّياسيّ الحالي، وما يترتّب عليه من تحكّم في مفاصل الدّولة من تعيينات في المراكز الأمنيّة والقضائيّة عبر حكومة جديدة تملك أكثريّة “معادية” للمقاومة، ومجلس نيابيّ يحوز أكثريّة تخوّله انتخاب رئيس يحقّق الغاية نفسها.

وقد مُهّدت الأرضية اللّازمة لخوض هذه “الحرب” منذ انطلاق الحراك الشّعبي في 17 تشرين 2019. وهذا ما أعلنه مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان في تشرين 19 الأوّل عام 2019، أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الاميركي: “يستطيع اللّبنانيّون اغتنام فرصة الإنتخابات المقبلة لتجريد “حزب اللّٰه” من شركائه في البرلمان” ولأجل هذه الغاية صُرفت أموال طائلة على جمعيات المجتمع المدني “NGOS” وبعض وسائل الاعلام ومواقع التّواصل بهدف شيطنة الأحزاب وتهشيم أدوارها وتحميلها مسؤوليّة الانهيار الشّامل على كافّة الصّعد، أملًا بانتاج قوىً جديدة من “المجتمع المدني” الّذي يتحرك، معظمه، في فلك القوى الدّولية المناهضة للسّلطة اللّبنانيّة الحاليّة وأركانها الّتي باتت تُسمّى بـ “أحزاب السّلطة”.

وقد تمّ التّصويب بشكل خاص على “حزب الله” واتّهامه بالهيمنة على مفاصل الدّولة، وبالتّالي يجب على اللّبنانيين “مقاومة” الحزب كونه المسؤول عمّا آلت إليه الأمور، وهذا ما أشار إليه فيلتمان في الجلسة ذاتها: “سيكون على اللبنانيين أنفسهم اختيار المسار الذي يقود إما إلى الفقر الدائم وإما الى الإزدهار المحتمل”.

أثار كلام السّفير الأميركي السابق ضجة اعلاميّة وسياسيّة قبل عامين، وقد وصلنا اليوم إلى ما وعدنا به، مع دولار تخطى 25 ألف ليرة وانهيار ممنهج وشبه كامل لكلّ مؤسّسات الدّولة وإداراتها، اللّهمّ إلّا المؤسّسة العسكريّة الّتي أثنى عليها فيلتمان في معرض كلامه (وهي مستمرّة بالحدّ الأدنى بفضل الدّعم الغربي)، والآتي أعظم على المستوى المعيشي، فمع رفع الدّعم المطلق ورفع قيمة الدّولار الجمركي، دون تأمين بدائل للمواطنين، سترتفع الأسعار بشكل جنونيّ في الأسابيع وربّما الأيّام المقبلة، ما ينذر بانفجار اجتماعيّ غير مسبوق، قد يطيح بالانتخابات القادمة وكلّ الاستحقاقات اللّاحقة!

صحيح أنّ بعض القوى نجحت، سابقًا ونسبيًّا، في التّصدي للحملة الشعواء الّتي شُنّت عليها، واستطاعت ضبط شارعها، وتحصينه من الخروقات المعتبرة، خصوصًا ثنائي حركة أمل وحزب الله، إلّا أنّ هذا الالفاف حول الثّنائي سببه الأساسي إيمان جمهوره بثقافة المقاومة الّذي يحصّنها من الاختراقات الكبيرة في صفوفها، وهذا ما يحمّل طرفيّ الثّنائي مسؤوليّة مضاعفة اتجاه الجمهور العريض الّذي آمن بقيادته وأمّن لها مساحة آمنة للدّفاع عن مشروعيّتها، واتّجاه كلّ اللّبنانيين الّذين ساندوا المقاومة وحموا ظهرها وأمّنوا لها الشّرعيّة الوطنيّة اللّازمة.

وعليه، وحتّى لا نكون أسرى خياريّ فيلتمان “الفقر الدّائم أو الازدهار المحتمل” يجب على مَن تصدّى لمواجهة المشروع الأميركي وأخذَ على عاتقه مقاومة خياراته أن يطرح مشروعًا متكاملًا لبناء الدّولة، اقتصاديًّا وماليًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، ويقدّم نموذجًا مقنعًا يحفظ كرامة المواطنين وحقوقهم.

وإذا كان البعض يلوّح بالفيدرالية علنًا، والبعض الآخر سرًّا، فإنّ من يصرّ على نهائيّة الكيان ووحدة أراضيه مُلزم بطمأنة كافّة شركائه وتبديد هواجسهم.

لا شكّ بأنّ الانتخابات النّيابيّة القدمة تحدّ حقيقيّ لكنّ التّحدّي الأكبر يكمن في تحويل الاستحقاق إلى فرصة لتجديد المشروع السّياسيّ وتطوير الخطاب الاعلاميّ ومدّ جسور التّلاقي مع المحيط العربي تأكيدًا على هويّة لبنان وانتمائه العربي، وتوسيع مروحة الخيارات الدولية لتشمل الشرق والغرب انطلاقا من تقديم مصالح لبنان على أيّ اعتبار آخر.

النّاس تعبت والحياة تغيّرت والظّروف المحيطة اختلفت، والثّابت الأكيد أنّ التّغيير والتّطوير شرط الاستمرار، ولا بدّ من تقديم نماذج من شخصيّات موثوقة ذات كفاءة مشهودة قادرة على ملامسة هموم النّاس وتطلّعاتها وطموحاتها، انسجامًا مع رؤية جديدة وطرح مغاير!

شارك المقال