على المسيحيين أن يصرخوا!

عاصم عبد الرحمن

ميشال عون، جبران باسيل، شربل وهبة، جورج قرداحي واللائحة تطول، هم مسيحيون نعم لكنهم ليسوا كل المسيحيين بل قلة قليلة أرادت لها قوى الأمر الواقع أن تتربّع على عرش السلطة في لبنان تحت شعار “خذ ما شئت من السلطة داخلياً واعطنِ ما أريد من الشرعية خارجياً”، تلك هي المعادلة التي دفعت “حزب الله” إلى إيقاف عقارب الساعة حتى انتخاب حليف المقاومة رئيساً للجمهورية في زمن اعتُبر عهد الانتصارات الممانِعة إثر توقيع الاتفاق النووي بين الأميركيين والإيرانيين عام 2015.

ميشال عون رئيس الجمهورية اللبنانية التي لم تحِدْ يوماً عن خط القضايا العربية والدفاع عنها، أعلن من على منبرٍ مصري أثناء زيارته إلى القاهرة في 12 شباط 2017 قائلاً للداخل اللبناني والخارج العربي والدولي: “طالما أنّ إسرائيل تحتل أرضاً والجيش اللبناني ليس قوياً كفاية ليقف في وجه إسرائيل، فنشعر بضرورة وجود سلاح المقاومة كوجود مكمّل للجيش اللبناني..؛ سلاح المقاومة ليس مناقضاً لمشروع الدولة، بل هو جزء أساسي من الدفاع عن لبنان…، لم تعد ثمة حاجة ملحة لنا أن نبحث في تجريد “حزب الله” من سلاحه لأنّ لدينا أرضاً محتلّة من إسرائيل، وهي تطمع في مياه لبنان”.

جبران باسيل وزير (سابق) للخارجية اللبنانية التي وقف رؤساء ديبلوماسيتها يوماً صارخين عبر المنابر العربية والدولية بالعروبة والحق والتضامن أمثال شارل مالك، حميد فرنجية، جان عبيد وغيرهم، يمتنع عن إدانة قصف الحوثيين لمنشآت نفطية سعودية شاقاً بذلك إجماعاً عربياً حول رفض التدخلات الإيرانية عبر أذرعها المنتشرة في المنطقة فيقول في 24 أيلول 2019: “لا يمكنني من منطلق مبدأ النأي بالنفس إدانة ضرب منشأة في السعودية كما لا يمكنني إدانة ضرب مستشفى في اليمن…، إن الحكومة اللبنانية لا تعتبر حزب الله تنظيماً إرهابياً”.

لم يعد مهماً الغوص في انفعال شربل وهبة وخروجه على الأعراف الديبلوماسية التي يفترض أنها تؤطر سلوك أي وزير للخارجية، كذلك الحديث عن مكابرة جورج قرداحي في تنفيس الاحتقان الخليجي واضعاً استقالته كشرطٍ لحل أزمات الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا الجنوبية متناسياً أنه على رأس وزارة الصورة والتواصل اللبنانيَيْن مع العالم.

هؤلاء منابر مسيحية قوية يستخدمها الحزب في خطاب سلخ لبنان عن عمقه العربي بقوة، ولكن أين هم مسيحيو لبنان الكبير والطائف و14 آذار وبكركي؟

تمكَّن فؤاد السنيورة خلال ترؤسه للحكومة ما بين عامَيْ 2005 و2009 من مواجهة “حزب الله” بقواه السياسية والديبلوماسية والدستورية كافة؛ فصدر في عهده القرار 1701 وتشكلت المحكمة الدولية كما صمد على رأس الحكومة لأكثر من سنة إبان محاصرته من أنصار المقاومة بعد حرب تموز 2006، كل هذا فعله السنيورة ولم يرِدْهُ الحزب، فكان 7 أيار كمخرج تسلطي لعسكرة المواجهة التي بدأت سياسية وانتهت مذهبية وهنا يكمن خطر اندلاع صراع مذهبي لا يدري أحد متى وكيف وأين ينتهي، إذ إنَّ أي مواجهة إسلامية – إسلامية لها امتدادات خارجية وجبهات قابلة للتفاعل والاشتعال في كل لحظة، وهو ما يجعل سعد الحريري متمسكاً بربط النزاع بين تيار المستقبل و”حزب الله” أي بين السنَّة والشيعة ضمناً لتبقى اللعبة السياسية في إطارها التنافسي الديموقراطي درءاً للفتنة الأكثر والأسرع اشتعالاً على الإطلاق.

لم يتواجه المسيحيون مع “حزب الله” ويعزو البعض السبب إلى تفاهم مار مخايل، لكن سبق ذلك تحرير الجنوب عام 2000 حين سقط جيش أنطوان لحد مما جعل مسيحيي القرى الجنوبية يخشون ردود فعل انتقامية فكان الفعل مغايراً للشعور: “احترام واحتضان ومشاركة” هكذا أرادتها قيادة الحزب، لم يُرمَ مسيحي بوردة في أحداث 7 أيار 2008 بل حُيِّدت مكاتب القوات في بيروت عن أي استهداف والأهم مقاتلة “حزب الله” في سبيل انتخاب الرئيس المسيحي القوي كما أرادت الأغلبية المسيحية يومها وفق ما نص عليه اتفاق معراب.

وعلى الرغم من أن أحداث الطيونة أخذت طابع المواجهة المسيحية – الشيعية بدايةً إلا أنه سرعان ما تحولت إلى صراع سعودي – إيراني أبطاله “حزب الله” والقوات اللبنانية، إذاً مهما اشتدت العواصف بين قوىً مسيحية و”حزب الله” تبقى في إطار الدفاع عن الدولة والسيادة والاستقلال والهوية اللبنانية والامتداد العربي على العكس من أي مواجهة سياسية – سيادية مع القوى السنّية، فحتى الاختلاف بوجهات النظر حول الأحوال الجوية يعود به الزمن إلى عمق الاختلاف المذهبي – العقائدي. وعليه، وأمام حتمية استعادة الدولة وحماية الهوية، لا بد من رفع الصوت المسيحي عالياً ليس في وجه الحزب فحسب بل في وجه مَنْ يؤمّن له الغطاء المسيحي دستورياً وديبلوماسياً لا بل مَنْ يقاتل بالنيابة عنه، نعم هناك صراخ مسيحي مدوٍ في وجه الخاطفين لكن يجب أن يعلو الصراخ أكثر وأكثر وفي كل الاتجاهات، نزع الخطوط الحمر عن بعبدا فالمطالبة باستقالة الرئيس ليست دعوة لإسقاط النصف اللبناني، أُسقطَ الرئيس المصري المنتخب ديموقراطياً محمد مرسي فلم يضع الأزهر أي خط حول إسقاطه بل كان شريكاً في المرحلة الانتقالية، يرحل الأشخاص وتبقى الأوطان بانتظار مَن يبنيها.

وحده سيد المواقف الجريئة البطريرك الراحل مار نصرالله صفير كان قوياً حدَّ المجاهرة بقوله عن احتمالية فوز 8 آذار في انتخابات ٢٠٠٩2009: “سيتغير وجه لبنان”، عذراً غبطتك فقد تغير وجه لبنان بعد 9 سنوات من تحذيرك في انتخابات 2018.

هي ليست دعوة لنزع المسؤولية عن كاهل المسلمين أو صك براءة عن تلكؤٍ ما أو إعفائهم من تحرير الوطن واستعادة الدولة، فقد أدوا قسطهم للعلا تحت سقف الحفاظ على السلم الأهلي، هم محكومون بموازين القوى العربية – الإقليمية ومطالَبون على الدوام بالمواجهة الدستورية والديموقراطية الشاملة عبر إسقاط الغطاء عمن يؤمِن بشرعية أي سلاح خارج إطار الدولة، لكنّ للصراخ المسيحي دوياً أقوى فالشرعية الممنوحة لغير سلاح الجيش من بعبدا إلى بسترس هي باسم الدولة اللبنانية وتحت سقف الجمهورية وبالغطاء المسيحي القوي.

وإذ تشير معظم استطلاعات الرأي حول الأحجام التمثيلية للأحزاب والكتل النيابية إلى أنه على المستوى السني والشيعي والدرزي ما من تغيّرات تمثيلية كبيرة متوقعة وإنما سيقتصر الأمر على حركة زيادة أو نقصان ضمن هامش ضيق جداً من تبدل في المواقع والأسماء، على العكس من التوجهات المسيحية التي تبدو أنها ستسير في اتجاه مغاير لما هي عليه الآن، وعندها نكون أمام مقاومة حقيقية في معركة تغيير وجهة الأكثرية النيابية التي احتفل بها قاسم سليماني عام 2018.

يبقى الرهان، إذاً، على الصوت المسيحي ليعلو انتخابياً ويعلو أكثر في وجه خاطفي الدولة وشركائهم الأكثر خطورة من الخاطفين أنفسهم، ليصرخ الصوت المسيحي دفاعاً عن لبنان الطائف والتعددية ودستور المناصفة والشراكة، فإلى أي مدى سيعلو هذا الصوت؟ وكم من مستمع سيلبي وكم من منتظر سيرى؟

شارك المقال