الولايات المتحدة لن تنسحب من الشرق الأوسط

حسناء بو حرفوش

سلطت قراءة في موقع مجلة “فورين أفيرز” الأميركية الضوء على حاجة واشنطن لاستراتيجية جديدة للبقاء في الشرق الأوسط، وليس للخروج منه كما هو متداول. ووفقاً لبعض ما ورد في القراءة المفصلة، “لم يأفل نجم الوجود الأميركي في المنطقة بعد، إذ يدفع استمرار التركيز على طهران باتجاه الحفاظ على وجود عسكري أميركي كبير يُترجم بالتدريبات الأمنية البحرية المشتركة، التي تهدف إلى احتواء إيران. كما أنه لم يتضح بعد ما إذا كانت القواعد الأميركية الكبيرة في المنطقة معرضة للهجمات الإيرانية كما يخشى البعض (…).

حرب الظل مع إيران

وترى إيران في استمرار الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، تهديداً لمصالحها. وفي الوقت الذي تسعى فيه طهران لتعزيز ردعها، قد تفضّل ضرب أعداد صغيرة من العناصر الأميركية في مناطق الصراع بدلاً من القواعد الأميركية الكبيرة في الخليج (…) على غرار ما حصل في قاعدة التنف الأميركية في سوريا في تشرين الأول الماضي، في حادث وجهت فيه أصابع الاتهام لإيران. وقد تجذر العداء بين الولايات المتحدة وإيران بعمق داخل مؤسستي البلدين، خصوصاً مع تعزيز المتشددين لسيطرتهم في طهران لدرجة أصبحت فيها محاولات إعادة ضبط العلاقة أمراً غير مرجح في السنوات المقبلة. وقد دفع قرار إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي واعتماد سياسة “الضغط الأقصى” المصممة لعزل إيران ديبلوماسيًا واقتصاديًا، بالبلاد نحو المزيد من العدوانية (…).

وعلى الرغم من أن إيران حافظت في البداية على امتثالها للاتفاق النووي بعد الانسحاب الأميركي، إلا أنها وسّعت برنامجها بشكل كبير خلال العام الماضي. وزادت من تخصيب اليورانيوم بنسب تنخطى قيود الاتفاقية، مما جعلها أقرب إلى مستويات صناعة الأسلحة. وبالتزامن، تقدم البحث والتطوير لأجهزة الطرد المركزي مما قصر الوقت اللازم لإنتاج ما يكفي من المواد المخصبة لصناعة سلاح نووي، إلى أشهر بدلاً من فترة عام المرتقبة في ظل قيود الاتفاقية النووية. ولم يعد المفتشون النوويون يتمتعون بإمكان الوصول التي تتطلبها الاتفاقية. وفي النهاية، أضافت كل هذه الخطوات مصدراً آخر للتوتر في علاقات إيران مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي. أما حالياً، لم يعد واضحاً ما إذا كان الإيرانيون حريصين على إحياء الصفقة كما في السابق (…).

وتدور مناقشات أميركية حول “خطة ب” في حالة فشل المحادثات في فيينا، في استراتيجية قد تشمل المزيد من الضغوط الاقتصادية وربما الخيارات العسكرية. لكن من غير الواضح كيف ستؤدي هذه السياسات إلى اتفاق نووي جديد، ولا سيما من دون الدعم الدولي الذي كان ممكنًا قبل اتفاقية 2015. ومن الصعب موافقة الصين على المزيد من الضغوط الاقتصادية على إيران، في ظل تصاعد التوترات بين بكين وواشنطن. لا بل في الواقع، أعربت الصين أخيراً عن مواقف أكثر تعاطفاً بشأن حقوق تخصيب اليورانيوم لإيران في أعقاب قرار الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بيع غواصات نووية لأستراليا، الأمر الذي ترى فيه بكين خطراً يتعلق بانتشار الأسلحة النووية. أما الاحتمال الأكثر ترجيحاً في حالة الفشل في إحياء الاتفاق النووي فهو تجدّد الرد الإيراني على سياسات الضغط الأقصى لإدارة ترامب، من خلال تسريع الضربات العسكرية في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك استهداف القوات الأميركية. وفي حال انهارت الصفقة، سيصعب على الولايات المتحدة تقليص وجودها في الشرق الأوسط وتحويل تركيزها إلى مكان آخر، في ظل توسع “حرب الظل” بين الإسرائيليين وإيران بشكل كبير بالفعل، إلى المسرح السوري، حيث تهاجم إسرائيل بانتظام أهدافاً متحالفة مع إيران، لتصبح مواجهة بحرية نشطة، من دون أن ننسى حملة الاغتيالات التي استهدفت كبار العلماء النوويين الإيرانيين والهجمات المباشرة ضد البنية التحتية النووية الإيرانية، بما في ذلك منشأة نطنز النووية الإيرانية في نيسان 2021 مع انطلاق الجهود الديبلوماسية في فيينا.

وتجنب رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت حتى اللحظة الخلاف العلني مع واشنطن بشأن الملف الإيراني. لكن على الرغم من أن أسلوبه قد يختلف عن نهج المواجهة الذي اتّبعه رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، لا تختلف سياساته بشكل ملحوظ (…) وأدلى قادة إسرائيليون آخرون بتصريحات علنية أكدوا فيها حق (إسرائيل) في الدفاع عن النفس ضد إيران. وبالنظر إلى الالتزام السياسي الأميركي العميق بأمن (إسرائيل)، يصعب على واشنطن البقاء على الهامش في حالة نشوب صراع إيراني – إسرائيلي. وفي سياق متصل، يستمر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالاحتدام (…) وقد يفضل صانعو السياسة الأميركيون تحسين الظروف الاقتصادية للفلسطينيين على الضغط على الإسرائيليين في القضايا الجوهرية مثل التوسع الاستيطاني. وقد أظهر اندلاع العنف في قطاع غزة في أيار الماضي المساعي الأميركية لاحتواء الصراع وعدم القدرة على تجاهله.

الاستراتيجية الخاطئة للبقاء

في ظل كل ما تقدم، لن تتخلى الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط. وفي الواقع، قد تواجه مشكلة مختلفة لا تتعلق بالمغادرة وإنما بالاستراتيجية الخاطئة للبقاء. ويبدو أن إدارة بايدن تضاعف من التزاماتها العسكرية لطمأنة شركائها، المشككين بمسار سياساتها الخارجية. وتدل مبيعات الأسلحة على أن واشنطن لا تزال تعطي الأولوية لشراكاتها العسكرية في المنطقة. لكن أي جهود غير متوازنة مع الانخراط في الأمن البشري وتحديات الحوكمة، قد تؤجّج الصراعات الإقليمية. وتقضي أفضل طريقة للمضي قدما باستغلال فرصة إعادة التوازن الإقليمي (…) إذ تحتاج الولايات المتحدة لإعادة تركيز انتباهها ومواردها على التحديات التي تؤثر في الحياة اليومية للناس. ويندرج تمكين القدرة على الصمود في مواجهة تغير المناخ في المنطقة التي تعاني بالفعل من ضعف البنية التحتية، وتوسيع فرص الشباب، ضمن القضايا التي يجب أن تتصدر جدول أعمال المسؤولين الأميركيين خلال زياراتهم الشرق الأوسط. ويجب أن يوجه الدعم الأميركي في هذه المجالات للأعمال الجارية بالفعل والتي تنقصها الموارد الكافية للتطبيق.

وفي هذا التوقيت من التدفق الاستراتيجي، تملك الولايات المتحدة الفرصة للقيام بالأشياء بشكل مختلف ولتطوير وتنفيذ استراتيجية للتنمية والإنصاف. وبالتالي، يمكنها الاستثمار في الحلول للتحديات الاجتماعية والاقتصادية والحوكمة التي تعيق حصول مواطني المنطقة على حياة أفضل، بدلاً من الاستثمارات العسكرية الضخمة. كما يمكن اواشنطن بالتعاون مع حلفائها تقديم يد العون للشركاء الذين يرغبون بتحويل مشاكل المنطقة لحلول محتملة. وفي الحالتين، لن تترك الولايات المتحدة الشرق الأوسط، لكنها ستتحول ببساطة إلى جزء من الحل الذي يحتاج إليه”.

شارك المقال