“جنرالكم في متاهة”

مروان الأمين

عام ١٩٨٨، نجح ميشال عون في تأسيس حالته الجماهيرية. بعد اغتيال بشير الجميل، مرّ المسيحيون في مرحلة تقهقر وإحباط. توجه إليهم عون من خلال خطاب سياسي حاد وشعبوي فيه تحدٍ وعنفوان. وجدوا فيه بارقة أمل للخروج من الإحباط واستعادة الدور. توهموا بأن بشير الجميل يتكرر في ميشال عون.

في تلك المرحلة كانت القوات اللبنانية مليشيات، قدم ميشال عون نفسه لهم بأنه يجسد المزاوجة بين المقاوم وممثل الشرعية والدولة.

نجحت نسخة ١٩٨٨ من خطاب ميشال عون الشعبوي، فتمكن من وراثة المارونية السياسية، وتأسيس حالة سياسية لها شعبية واسعة. كانت البداية.

في عام ٢٠٠٥ بعد عودته من فرنسا، نجحت شعبوية عون في استقطاب المسيحيين المحبطين بعد ١٥ سنة من الاضطهاد، وذلك من خلال خطاب شعبوي حمل:

١- نزع سلاح “حزب الله” الذي تضمنه “الكتاب البرتقالي”. مثّل هذا العنوان “الخديعة” أملاً للمسيحيين في استعادة الدولة المركزية القوية من قبل مسيحي قوي.

٢- هجوم على “الحريرية”. فيه دغدغ عون غرائز البرجوازية والنخب الاقتصادية المسيحية، التي وجدت فيه استرجاعاً للدور الاقتصادي لـ”أصحابه المؤسسين للبنان” من “الحريرية”.

٣- هجوم على جنبلاط. نبش للقبور ولذاكرة الحرب. أثار عون غرائز جيل الحرب عند المسيحيين. وجدوا فيه لحظة ثأر واستعادة أمجاد قوّة من ضعيفٍ عانى الاضطهاد منذ ١٩٩٠.

٤- في تلك المرحلة، كانت “القوات اللبنانية” في موقع يقدم تنازلات من أجل الحفاظ على تحالف “١٤ آذار” مع الحريري وجنبلاط اللذين يرفضان القرار ١٥٥٩، وينسجان “اتفاقاً رباعياً” فيه استهداف لدور ولتمثيل المسيحيين في الدولة بعد خروج الجيش السوري، وغيرها من الخطايا التي ارتكبها خصوم عون وكان لهم مساهمة في تعزيز مكانته في الشارع المسيحي.

وهنا أيضاً، نجحت نسخة ٢٠٠٥ من شعبوية “العونية السياسية” في السيطرة على أكثرية الشارع المسيحي.

بعد وصول ميشال عون لرئاسة الجمهورية عام ٢٠١٦، اختلف أمر، أصبح عون في موقع المُطالَب بتحقيق وعوده “الشعبوية” منذ ١٩٨٨. وأصبح المسيحيون ينتظرون خطابات أقل وأفعالاً أكثر. حان وقت الحصاد لجهة تعزيز دور مؤسسات الدولة، لكنهم وجدوه مدافعاً عن سلاح “حزب الله” على حساب هيبة الدولة.

أيضاً حان وقت الحصاد بالنسبة للبورجوازية المسيحية والنخب الاقتصادية. نمواً وازدهاراً اقتصادياً. لكن عهده لم يحمل لهم سوى الدمار لمصالحهم. أوصلت سياساته وتحالفاته البلد إلى عزلة عربية ودولية، نتيجتها كانت إفلاساً وانهياراً لم يشهد له تاريخ لبنان مثيلاً.

وكذلك الحصاد الذي انتظره المسيحيون مع الرئيس، هو انتظام عمل المؤسسات وتعزيز الشفافية واحترام الكفاءة، لكن محصوله كان تحويلاً للدولة ومؤسساتها إلى “مزرعة عائلية” ومجالاً مفتوحاً “للتنفيعات” والمحسوبيات. إن الانحطاط الذي شهدته إدارة الدولة في عهد ميشال عون لا قعر ولا مثيل له.

إن الخطابات الشعبوية التي يتداول عليها الرئيس عون وصهره لم تعد تنفع. سقطت “ورقة تين” حقوق المسيحيين، وانكشفت خديعة مشروع دولة المؤسسات ومحاربة الفساد.

خديعة ١٩٨٨ بأن ميشال عون الشرعية والدولة، و”القوات اللبنانية” مليشيات، سقطت. “القوات” اليوم هي من تمثل خيار الدولة والمؤسسات، وعون داعم للمليشيات على حساب الدولة وهيبتها.

وخديعة ٢٠٠٥ بأن ميشال عون حامل لواء استعادة حقوق المسيحيين ومشروع الدولة القوية ومحاربة الفساد، سقطت أيضاً. فالمسيحيون بأكثريتهم من جميع طبقاتهم، من الأكثر فقراً إلى برجوازيتهم، ومرجعيتهم الدينية من بكركي إلى الڤاتيكان، يعون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن مصلحة لبنان ومصالحهم وتاريخهم لا يتوافق مع خيارات ميشال عون وتحالفاته. وبالإضافة إلى موقع “القوات” المختلف اليوم عما كانت عليه في ٢٠٠٥، هناك “ثورة ١٧ تشرين” التي كان للبرجوازية والنخب الاقتصادية والطبقة الوسطى المسيحية دور كبير فيها. أصبح للمسيحيين بديل جديّ عن الوهم الذي كانت تمثله “العونية السياسية”. هذا البديل يتمثل بمرجعية بكركي و”القوات اللبنانية” ومجموعات الثورة وأحزابها.

الخطاب العوني الشعبوي: في ١٩٨٨ كان الوهم للمسيحيين والانطلاقة لتياره. في ٢٠٠٥ كان الخديعة للمسيحيين والانتصار الشخصي لعون. بينما منذ ٢٠١٦، “العونية السياسية” في آخر مراحل المتاهة قبل النهاية…

وللجنرال كما لصهره نصيحة بقراءة هاتين الروايتين للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز، “الجنرال في متاهة” و”خريف البطريرك”، علّهما يجدان فيهما سيرتهما الذاتية.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً