ليالي الحسم في فيينا!

علي نون
علي نون

ليس سهلاً الحكم على مآلات المفاوضات الخاصة بالمشروع النووي الإيراني في فيينا طالما أنّ الارتباك يسيطر على أداء معظم المعنيين بها من قريب أو بعيد. من واشنطن إلى تل أبيب فطهران عينها، وصولاً إلى بكين وموسكو مروراً بالأوروبيين.

الموقف الأميركي المعلن والمضمر هو اعتبار التفاوض الطريق “الوحيد” لبلوغ هدف ثني الإيرانيين عن مشروعهم الجموح، لكن واشنطن تحصد الآن ثمن انكشاف موقفها ذاك مجاناً اذا صحّ التعبير بعدما تمادت طهران في حساباتها وذهبت إلى “تطوير” مطالبها بدلاً من أن تسعى إلى نقطة وسطية… وهي في ذلك تنتهز فرصة وتحاول حصد ثمارها. وتلك الفرصة هي الخطأ الجسيم الذي ارتكبه الطرف الأميركي عندما كشف عن سقفه سلفاً! وذهب إلى فيينا من دون القول إنه يملك خطة بديلة عن فشل خيار التفاوض! وهذا في علم السياسة والحصافة أمر غير طبيعي وليس سوياً… لا أحد يرمي سلاحه أمام عدوه ويقول له تعالَ لنتفاوض! ولا أحد يتخلى مسبقاً عن أوراقه أو يكشفها بما يحرقها قبل أن توضع على الطاولة! ولا أحد ينخرط في نزاع سياسي وديبلوماسي وجودي (والمشروع النووي من هذه الطينة وليس أقل من ذلك) من دون أن يبرز عضلاته أمام خصمه حتى لو كان خياره الفعلي هو عدم استخدام تلك العضلات!

تلقّفَ المفاوض الإيراني تلك الهدية وراح بعيداً على عادته: ينتهز كل فرصة سانحة ويمعن في انتهازيته وحساباته… وعلى الرغم من ضعفه، ذهب إلى الافتراض أنّ عدوّه أضعف منه! وعلى الرغم من حاجته المصيرية إلى رفع العقوبات القارصة عليه، صار يتصرف كأنه مرتاح أمام مأزومين يسعون إلى رضاه! صعّد موقفه ومطالبه وافترض أنّ جو بايدن لا يريد شيئاً غير العودة الى الاتفاق! وأنه مصمم سلفاً، وحتى منذ حملته الانتخابية قبل انتخابه، على اعتماد سياسة مناقضة لسلفه دونالد ترامب… بما في ذلك، وأول ذلك، العودة إلى الاتفاق مع طهران !

لكن، مثلما أنّ الأميركيين يظهرون كل ذلك الارتباك راهناً ويروحون إلى التلويح بخيار الضربة العسكرية كبديل عن فشل مفاوضات فيينا، فإن الإيرانيين أيضا كبّروا الحجر حتى صاروا عاجزين عن رميه! استرسلوا في غلوائهم وافترضوا شيئاً صحيحاً لكن في المكان الغلط: لا يسري قانون التفاوض المكسور بهمّة الأميركيين، على قصة النووي! لا إدارة بايدن ولا أي إدارة أميركية، ولا أي حكومة غربية، ولا أي عاصمة كبرى أو صغرى، دولية أو اقليمية بما فيها بكين وموسكو، يمكنها أن ترضى بامتلاك النظام الإيراني الحالي، بغيبياته وشروده ومشروعه “المهدوي” الوسائل الموصلة إلى إنتاج قنبلة نووية! بل لا توجد في الوعي العام الغربي تحديداً، حيث الحساسية المفرطة من الحروب الكبرى والصغرى والخسائر البشرية المترتبة عنها، استعدادات لإظهار تلك الحساسية إزاء أي “طريقة” ممكنة لمنع إيران من الوصول الى السلاح الافنائي الشامل… افتراض طهران أنّ الغرب عموماً والأميركيين خصوصاً يمكن أن يركنوا إلى الابتزاز في هذا الملف، هو دليل على واحد من أمرين: إما على نفس مغامر ومقامر على قاعدة كل شيءٍ أو لا شيء. وإما على سوء تقدير خطير لحجم القضية المطروحة! وفي الحالتين هناك أداء غير سوي لكن يمكن “فهمه” مع نظام يفترض أنّ علاقاته برب الدنيا مميزة عن غيره! وأنّ دوره الأرضي هو شيء سماوي خاص! وأنّ صلاحياته هي في الأصل فوق بشرية!

وليست قليلة الدلالة تلك المناورات المشتركة المعلن عنها بين الأميركيين والإسرائيليين على خلفية القضية النووية إياها… بحيث أنّ الطرفين اختلفا جهاراً على آلية التفاوض وشروطه، لكنهما يعلنان التماهي في حال فشلت محاولات فيينا، ويستعدان معاً لليوم الآخر، ولمواجهة الجانب الإيراني مباشرة بالقوة العسكرية. وهذا في جملته ليس موقفاً تفاوضياً فحسب، ولا استعراض عضلات متأخر أو رد على الرسائل التصعيدية الإيرانية عبر التابع الحوثي في اليمن من خلال تصعيد الاعتداءات على المملكة العربية السعودية، أو عبر “حماس” في غزة من خلال “كربجة” التفاوض لتبادل الأسرى، أو عبر “الحشد الشعبي” في العراق لعرقلة تشكيل الحكومة الجديدة والقبول بالهزيمة الانتخابية، أو عبر “حزب الله” في لبنان واستمراره في تعطيل عجلة الحكومة… بل هو تأكيد وتثبيت للخلاصة القائلة بأنّ مشروع إيران النووي ليس ممكناً أيّاً تكن الأثمان. وأنّ أي ثمن سيدفع من أجل منعه وإحباطه سيكون أقلّ من أثمان السماح لنظام الولي الفقيه بامتلاكه !

هذه المرة تواجه إيران مستجدات غابت طويلاً: على مدى العقود الثلاثة الماضية خاضت معاركها بواسطة اتباعها وخارج أرضها وانخرطت في معارك متفرقة في سياق سعيها الدؤوب إلى إحياء ما تفترضه أمجاداً سابقة. ولم تتورّع عن شيء في ذلك السعي، لكنها الآن تواجه تحدياً مصيرياً مباشراً وفي عمقها الجغرافي وبنتيجة يمكن استشرافها سلفاً: خسارة كبرى وتاريخية و”مضمونة”! وفي ذلك يمكن القول أنّ الفارق بين الجموح والانتحار هو جزئية سوء التقدير الخطير في فيينا !

صحيح أنّ الارتباك هو الجامع الوحيد بين المختلفين المتفاوضين باعتبار امكانية الزعم بأنّ أحداً منهم لا يريد الحرب! لكن الفارق بين ارتباك طهران وارتباك مفاوضيها هو أنها تناور وتقامر فيما هؤلاء يقاربون الأمر من زاوية شمولية ووجودية، وليس أقلّ من ذلك.

شارك المقال