أم الازمات

علي نون
علي نون

ليس استطرادا في غير مكانه ولا تحاملا على الحقيقة القول ان الازمة الراهنة التي تعصف بلبنان قد تكون (والله اعلم) اخطر ما شهده على مدى العقود الخمسة الماضية…

وعلى الرغم من كثرة العناوين الفرعية لهذه الازمة الطاحنة وتراكم معطياتها وتداعياتها، فإن عنوانها المركزي الوحيد الذي “يليق” بها هو ذاك المتأتي من إحكام حزب ايران القبضة على عنق الجمهورية واهلها ولحساب ولي الامر وصاحب الشأن في طهران!

صحيح القول إن بلد الارز والأزمات توأم لا ينفصمان بحكم تركيبته التعددية الطائفية والمذهبية وما يستتبعه ذلك من ارتباطات خارجية اقليمية عند المسلمين ودولية عند المسيحيين، وبالمعايير الدينية والسياسية والثقافية والمادية… الخ، وان ذلك انتج تمايزات اساسية تحولت لاحقا الى خلافات ثم الى معارك متفرقة وصولا الى الحروب التي انفجرت عام ١٩٧٥ وما زالت تعّس على البارد! لكن الصحيح في المقابل ان بلد الارز امكنه في العموم ان يبقى قائما ومستمرا ورياديا في نواحٍ كثيرة ولا تخفى على احد.

والصحيح اكثر الزعم ان لبنان في سلمه ونهضته كما في حروبه وانكساره كان ولا يزال أسير ذلك التزاوج بين المحلي والخارجي: كان كذلك في المرحلة الاولى السلمية والنهضوية وبقي كذلك في المرحلة الثانية الصدامية والانحدارية… وفي الحالتين كان مستعدًا ومهيئا للمواكبة بفعل بنيته البشرية والمادية والخدماتية ودستوره الرحب على الرغم من علاّته الكثيرة ومناخ الحريات المضمونة في ذلك الدستور وفي أحكام التنوع الديني التي كانت ولا تزال اقوى في حالات كثيرة من احكام الكتب والنصوص النظامية والرسمية!

بهذا المعنى، يمكن الزعم ان لبنان كان ويبقى أسير استحالتين: اولى هي قيام دولة تامة ومنجزة، وثانية هي اضمحلال تلك الدولة بما هي كيان جامع لمتفرقات جمّة! وعنوان مشترك لمختلفين لا يملكون القدرة على ترجمة الاختلاف الى كيان ذاتي صاف ومنفصل عن غيره!

اتفاق الطائف الذي رعته المملكة العربية السعودية، كان المحاولة الاكثر واقعية لوضع حلول مستدامة لمحن بلاد الارز وازماتها… صار دستورا جديدا لجمهورية ما بعد الحرب وفي نصوصه تثبيت لما كان قبلا وخصوصا لجهة الحريات الاساسية والفرعية وطبيعة النظام وتقسيم السلطات ورعاية التنوع والحساسيات وقوننتها باتجاه ايجابي اذا صحّ التعبير… لكن النص لم يتواكب مع التنفيذ وبقيت سلطة الوصاية الاسدية فوق ذلك النص وكل متفرعاته وعملت بدأب على رعاية عدم تنفيذه وإتمامه! بل راحت الى إيقاظ السوابق الخلافية والانقسامية لضمان بقاء وديمومة دورها في لبنان والسعي الى السيطرة التامة عليه… وهذا انتهى مع خروجها مدحورة وغصبا عنها غداة جريمة الغدر بالرئيس الراحل رفيق الحريرى عام ٢٠٠٥.

خرجت منكسرة لكنها أورثت سلطتها وطريقة عملها لايران وتابعها الاثير والمميز: حزبها في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهذا طوّر في أدائه الاستراتيجي الخاضع لاجندة ولي الامر في طهران، وإن اعتمد تكتيكات لم تكن مركزية عند الاسديين: وضع مقاومة إسرائيل على رأس جدول أعماله… انتهى الاحتلال للجنوب اللبناني لكن جدول الاعمال بقي على ما هو عليه: السيطرة بالتقسيط المريح على لبنان شرعية وشارعا! وتمكن من ذلك مع ميشال عون وتياره السياسي الذي يقوده صهره جبران باسيل وإن كانت تلك السيطرة غير تامة ومستحيلة في نواح عدّة!

ولا يختلف مراقبون كثر وخصوصا منهم الذين طحنهم الدهر بتجاربه ومراراته، على اعتبار الازمة الراهنة و المفتوحة على الاسوأ، ام الازمات وأخطرها ونتيجة مباشرة لتحكم حزب ايران وملحقاته السياسية المصفوفة تحت خانة الممانعة، بكل قرار أساسي سلطوي وشرعي على مدى السنوات الماضيات بما اوصل الى تأزيم البلد داخليًا وخارجيًا وتقطيع اوصاله مع محيطه العربي بما عنى ويعنيه ذلك من كوارث لحقت وتلحق بعموم اللبنانيين.

الافتراض الكئيب بان هذه الأزمة طويلة وغير مسبوقة، يعود الى كون حزب ايران يسيطر لكنه لا يملك حلولا عامة لمعضلة مالية الدولة مثلا… ولا لكيفية رعاية الاختلافات الفعلية والمفتعلة بين حلفائه. ولا يستطيع القفز فوق ارتباطه المحكم بالسياسة الايرانية لمحاولة اخذ مصالح لبنان في الحسبان، لجهة علاقاته العربية مثلا او لجهة عدم التورط في أداء معاد امنيا وسياسيا واعلاميا لدول الخليج العربي، او لجهة “مراعاة” سائر خلق الله من الاغيار اللبنانيين في علاقاتهم وارتباطاتهم ومصالحهم وثقافاتهم وطبيعة اجتماعهم وعاداتهم وتقاليدهم وطرق عيشهم ومحاكاتهم للدنيا والحداثة أتت هذه من الشرق او الغرب… بل تحديدا من الغرب!

وعلى الجانب الآخر يستحكم الإغلاق: لا يحكم ولا يتحكم ولا يسيطر على شيء من يملك برنامجا للانقاذ، بالمال والسياسة والاقتصاد والديبلوماسية وعلاقات لبنان مع اهله وربعه العرب ومع العالم الواسع!

وفي خلاصة الامر، يكاد لبنان يغرق في ازمته الوجودية والمصيرية وعلى أيدي بعض اهله الذين اخذتهم ايران الى مشروعها المستحيل ووضعت بلد الارز في سوية حطامية واحدة مع اليمن والعراق وسوريا وغزة!

شارك المقال