نذر حرب دينية في القدس

زاهر أبو حمدة

أقامت العصابات الصهيونية دولة بمساعدة استعمارية، في بلاد اعتبروها بلا شعب. والحجة لذلك كانت دينية هي “أرض الميعاد”، ويدور الفكر التوراتي الحلولي دوماً حول ثلاثية “الإله والأرض والشعب”، فيحل الإله في الأرض، لتصبح أرضاً مقدَّسة ومركزاً للكون، ويحل في الشعب ليصبح شعباً مختاراً. وبالتالي قيام دولة إسرائيل باسمها التلمودي على أسس دينية تشرع قتل الآخر وفقاً لنظرة طبقية مستمدة من الرب. لكن حزب العمل الإسرائيلي استطاع وضع أسس دستورية فيها صياغات غير دينية وأقرب للعلمانية وذلك لتسويق ديمقراطية استعمارية وسط دول غير ديمقراطية. وهكذا تحولت العصابات إلى جيش، ولهذا الجيش دولة. وليس مصادفة أن يسمي أول رئيس وزراء ووزير حرب، ديفيد بن غوريون، الجيش بـ”الدفاع” وذلك تخليداً لعصابات “الهاغانا” التي تعني الدفاع بالعبرية.

واستمرت العقيدة التوراتية تتحكم بمفاصل الدولة وخطابها. ولعل تسمية حروبها الخارجية بأسماء دينية ليس من باب التعبئة بقدر ما هو إيمان وأسلوب حياة. وعلى الرغم من كل التقلبات الحزبية في دولة الاحتلال، إلا أن قانون القومية لليهود عام 2018 رسخ مفهوم الدين لأي مواطن في إسرائيل.

ومما لا شك فيه أن معسكر اليمين الحاكم فرّخ عصابات جديدة تهتف: “الموت للعرب”. وتبرز جماعات “تدفيع الثمن” و”فتيان التلال” و”جبل الهيكل” و”اتحاد منظمات المعبد” و”لاهافا”.

“لاهافا” تقف وراء الأحداث الأخيرة في باب العمود، وهي منظمة تعني “الشعلة” يمينية متطرفة تنشط ضد “اختلاط اليهود بالعرب وتمنع الزيجات المختلطة”، ويتزعمها الحاخام بنتسي جوبشتاين. وتستمد أفكارها من حركة “كاخ” والتي أسسها الحاخام مئير كاهانا، عام 1971. ولم تحظر الحكومة الإسرائيلية نشاط هذه العصابات المتطرفة، وبالعكس تدعمها مالياً وتؤمن لها حماية ورعاية سياسية. وعلى سبيل المثال، أصر الحاخام المتطرف رافي بيرتس، وهو وزير شؤون القدس في حكومة نتنياهو، والعضو البارز في “جماعات المعبد” على اقتحام محيط باب العامود لإثبات “سيادته”؛ في أثناء التظاهرات الفلسطينية في القدس. وفي السابق، كانت الحكومات الإسرائيلية تحاول اللعب على وتر “السماح والمنع”، فمرات تسمح للمتطرفين بتنفيذ عملياتهم، ومرات تحظرهم على غرار تنظيم “غوش إيمونيم” السري الذي خطط لتفجير المساجد في منطقة الحرم القدسي في الثمانينات.

ويشكل الحرم القدسي أساس الصراع الديني، ففيه المسجد الأقصى، وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين في الإسلام، وقبةَ الصخرة، التي عَرَج منها النبي محمد عليه السلام إلى السماء. أما اليهود فيقدسونه لاعتقادهم أنه كان في الماضي موضعاً لهيكلين يهوديين قديمين. وتعتبر ساحة المسجد الأقصى هي ساحة المعركة المركزية على الهوية والمستهدفة بالإحلال الديني، من خلال الطقوس اليهودية واقتحام المستوطنين لها شبه اليومي.

وأتى انتصار هبة باب العمود، ليؤكد أن الاحتلال وفي خلال 54 عاماً من احتلال العاصمة الفلسطينية عاجز على اغلاق البلدة القديمة على الرغم من مخططات تهويد القدس.

ولا يمكن أن يكتمل المشهد الفلسطيني المدافع عن المدينة إلا بصد الهجمة التي ينوي المستوطنون المتطرفون تنفيذها على الأقصى في 28 رمضان الجاري، عبر اقتحامات واسعة في ذكرى ما يسمى “يوم القدس” حسب التقويم العبري. وعقدوا لها مؤتمراً تحضيرياً في بداية هذا الشهر (نيسان) وأعلنوا تطلعهم لأداء الطقوس التوراتية الجماعية خلاله متعمدين كسر حرمة شهر رمضان، وليعلنوا بذلك أن القدسية اليهودية المزعومة للأقصى تسمو على قداسته الإسلامية عند تقاطع المناسبات.

ومن المهم التذكير بأن تفكيك الاحتلال للحواجز الحديدية تحت ضغط التظاهرات هو “الانكسار الصهيوني” هو الرابع في ستة أعوام من بعد هبة القدس في 2015 التي استنجد المحتل بوزير الخارجية الأميركية حينها جون كيري، بعد انطلاقها بـ21 يوماً فأفشلت محاولة فرض التقسيم الزماني المتكافئ للأوقات والأعياد في الأقصى؛ وهبة باب الأسباط عام 2017 التي اضطر المحتل فيها لتفكيك البوابات الإلكترونية والكاميرات على أبواب الأقصى بعد أقل من 14 يوماً على تركيبها؛ وهبة باب الرحمة عام 2019 التي أعادت فتح مصلى باب الرحمة جزءاً لا يتجزأ من الأقصى بعد 16 عاماً من محاولات السيطرة التدريجية عليه وعلى محيطه. هذا إضافة إلى تراجع الاحتلال في الخان الأحمر بعد صمود شعبي وتهديد دولي عام 2018، وفي مقبرة باب الرحمة بالعام نفسه. ومن المحتمل تكرار المشهد بعد أيام، ووقوف المقدسيين أمام المستوطنين.

يبقى الأخطر وهو تحول المواجهات إلى حرب دينية. فشعارات المتطرفين اليهود تحمل بذور ذلك، لا سيما وأنها تدعو إلى “تحرير جبل الهيكل من الاحتلال العربي (الإسلامي)”. وما يمكن وقف المسلسل هو ضغط دولي على حكومة الاحتلال، وكان لافتاً بيان السفارة الأميركية الذي يطالب بإنهاء “التحريض” في القدس، علماً أن اسم المحرض سقط من البيان، لكنه مؤشر إلى أن ما يجري خطير جداً، يمكن أن يغير وجه الشرق الأوسط لا سيما إذا وقعت الحرب الدينية.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً