مهمة تنتظر الحراك المدني

محمد علي فرحات

أين هي ثورة 17 تشرين وأين هو الحراك المدني؟ اختفت من المشهد صوَر المتظاهرين الذين يطلبون صورة نقية لدولة عادلة ويدينون مظاهر الفساد التي أهلكت المجتمع اللبناني وحرمته من العيش الكريم وأفقدته مدّخراته الماليّة وقطعت العلاقة بين السلطة والشعب.

كان الحراك المدني يعمد إلى التظاهرات وإلى تعقّب المسؤولين عن الانهيار المالي أثناء وجودهم في الأماكن العامة بل في بيوتهم أحياناً. لم يبق من هذا الحراك إلاّ دعاوى يرفعها محاموه بين حين وآخر على من يعتبرونهم ضالعين في فضائح مالية وغير مالية، دعاوى قليلة لا تمنع القول إن الحراك المدني اختفى أو يكاد.

الآن يحتاج اللبنانيون أكثر من أي وقت مضى إلى الحراك المدني، ليس في صورته الماضية التي استهلكت وفقدت القدرة على تقديم أي دفع جديد باتجاه العدالة وإدانة المعتدين على المال العام. والحال إن الحراك يحتاج إلى نهج جديد أكثر جرأة، بحيث يشكّل هيئات رقابية على أداء الوزارات والمؤسسات العامة.

يقوم هذا النهج على تشكيل فرق مراقبة ومتابعة لكل وزارة ومؤسسة عامة، وإصدار بيان شهري موجّه إلى الرأي العام يحدّد المواضع السلبيّة والإيجابيّة في أداء الوزارات والمؤسسات، فلا يكتفي بالإدانة كما جرت العادة وإنّما يضيف إشارات إلى الأداء الإيجابي، وبذلك يطّلع الرأي العام على ما يستحق الإدانة وما يستحق المباركة والتشجيع.

قد يبدو هذا النهج الجديد للحراك مجرد إضافة هيئة جديدة إلى هيئات تراقب أداء السلطات العامة كمثل ما يفعل أحياناً مجلس النواب وما تفعل الصحافة والأحزاب، ولا ننسى انطباعات المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة والدول الكبرى في الإقليم وفي العالم التي تراقب الوضع اللبناني وتسعى إلى الحد من أسباب الضعف والانهيار، ذلك أن مصير لبنان يؤثر في منطقة شرق المتوسط إيجابا أو سلباً، في اتجاه السلام الاجتماعي أو نحو تفكّك يشعل حروباً فعليّة صغيرة أو كبيرة.

دور الحراك المدني في الرقابة مطلوب وليس مجرد إضافة إلى أدوار رقابية أخرى سبقته، فالبرلمان اللبناني يتراجع نحو أشكال من التعليب السياسي لا تجرؤ على رقابة حقيقيّة، وتكاد الصحافة والأحزاب، في أحيان كثيرة، توجّه نشاطها للدفاع عمّن تؤيده وإظهار أخطاء من تعارضه كأنّها بذلك تحرّض الرأي العام ولا تهتم بالمصالح المشتركة للمواطنين.

من يذكر في هذه الأيام أزمة تشكيل حكومة جديدة؟

لا أحد أو قلّة قليلة، فاللبنانيون مشدودون إلى فضائح تطالعهم صباح كل يوم، أبرزها فضيحة تهريب مخدّر الكبتاغون إلى المملكة العربية السعودية بكميات ضخمة. كان للسعوديين أن يكشفوا الأمر ويمنعوا وصول السموم إلى مجتمعهم، وكان على اللبنانيين أن يعانوا من منع وصول فواكههم وخضارهم إلى المملكة أو عبرها إلى أماكن أخرى.

ويبدو المواطن اللبناني كمن يكتفي بالأخبار السيّئة ويكاد يفتقد الحماسة للمواجهة بل حتى لإبداء الرأي، كما أن رياح اليأس تهب في جميع المناطق وتكاد تحيل الخطاب السياسي إلى أصداء متكررة بلا جمهور يسمعه ويتفاعل معه.

لذلك كله تبدو ضرورية رقابة الحراك المدني حين تستنهض الطاقات الشعبية وتستند إلى الرأي العام كأداة حماية لدى تعيينها مواضع الخلل في أداء الوزارات وسائر الهيئات الحكومية.

وإذا كان للحراك المدني أن يختار أسلوب رقابته، نكتفي هنا بالقول إنه مدعو إلى تكليف فرق من أعضائه تستعين بمتطوعين من موظفي الدولة وغيرهم، وتراقب هذه الفرق عمل كل وزارة أو مؤسسة عامة على حدة، من ناحية الأداء وتعيين الواجبات المطلوبة ومدى كفاءة العاملين ومتابعة عملهم في قضية محددة وبيان كيفية العمل والوقت الذي يستغرقه والنتيجة التي يصل إليها، ذلك أن الانطباع العام لدى اللبنانيين أن معظم الموظفين كسالى وأنهم لا يتحمّسون إلاّ إذا تحققت لهم مكاسب خارج القانون كالرشوة والمحسوبيّة، فيهملون ملفّات ويتحمّسون لأخرى وفقاً لهذه المكاسب.

وتبدو رقابة الحراك المدني نظريّة بل إيديولوجية أحياناً لدى متابعته أعمال وزارة الخارجية أو وزارة الدفاع، لذلك نقترح إهمال العمل على هاتين الوزارتين والإنصراف إلى الوزارات والمؤسسات العامة الأخرى.

ويستعين الحراك بخبراء حين يتابع أعمال وزارات كالأشغال العامّة والإتصالات والداخليّة (خصوصاً دوائر الأحوال الشخصيّة) والمجالس المتخصّصة التي يفصلها عن الرأي العام ستار أسود فتبقى خارج الاهتمام على رغم موازناتها المرتفعة.

وربما يتطلب الأمر مزيداً من الوقت ليستطيع الحراك إنجاز المهام المطلوبة في رقابة حقيقية غير مسبوقة، فيبدو هذا العمل تأسيسياً يقدّم للمواطنين إيجابيات تحملها بيانات شهرية لرقابة شعبية مسؤولة.

فليجرّب الحراك المدني، ومعظمه من الشباب، عملاً مكثّفاً يُخرجه من الكسل ويضعه في الصورة العامة بعد غياب كما يحرّره ممن يعتبرونه قاصراً يحتاج إلى رعاية وإرشاد.

فإذا نجح الحراك في مهمته الصعبة هذه، فهو بذلك يضخ الدم في شرايين الديموقراطية اللبنانية التي تشكو من فقر الدم، وإذا فشل يمهّد الطريق إلى حراك مدني آخر، فلا بد من رقابة حيوية على أداء الوزارات والمؤسسات العامة اليوم وغداً وفي أي موعد آخر.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً