لن أكون حريرياً!

عاصم عبد الرحمن

قال الرئيس الشهيد رشيد كرامي يوماً في معرض ردّه حول تخليه عن رئاسة الحكومة في عهد الرئيس الراحل سليمان فرنجية – هذا العهد الذي اتّصف بالإنقسامات السياسية والاصطفافات المذهبية حتى انفجرت عام 1975 حين اندلعت الحرب الأهلية – بما معناه أن الإنحناء أمام العاصفة والابتعاد عنها ريثما تهدأ خيرٌ من أن تجرفنا نهائياً ثم نعود أقوى لاحقاً. فهل تعليق الرئيس سعد الحريري للعمل السياسي يقع في خانة تمرير هذه المرحلة التي يُعتقد أنها الأصعب على الإطلاق في تاريخ لبنان؟

من باب تحمّل المسؤولية واقتناعاً بألَّا مجال لأي فرصة للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والإنقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة، أعلن الرئيس سعد الحريري تعليق عمله في الحياة السياسية داعياً عائلته في تيار المستقبل لاتخاذ الخطوة عينها ممتنعاً عن الترشح للإنتخابات النيابية المقبلة إن تمت على حافة فوهة البركان التي تغلي من حول لبنان.

لعل قرار اعتكاف سعد الحريري عن العمل السياسي يعتبر من أكثر القرارات جرأة يتخذه رجل سياسي لا يزال في ربيع عطائه، ففي الوقت الذي كان يُدعى فيه إلى الاستقالة من المجلس النيابي لنزع الشرعية والغطاء السياسي عن المنظومة الحاكمة برمتها، ها هو يقلب الطاولة على الحلفاء المفترضين قبل الخصوم، هؤلاء الأصدقاء الذين تهافتوا إلى تطويب الجمهور السنّي باسم أحزابهم حتى قبل أن يلفظ أولى كلمات قراره تعليق العمل السياسي، فبعد عاصفة سمير جعجع الذي كان مستعجلاً اقتناص أصوات الطائفة السنّية تحت شعارات المواجهة والصداقة والتقارب الفكري السيادي، ها هو رئيس الجمهورية ميشال عون يلملم همته المتعبة وينطلق نحو دار الفتوى – التي لم يكلّ يوماً من كيل الاتهامات في حقها كلما نطق سيدها تصويباً للتوازن السياسي – في زيارة تأخرت خمس سنوات لكن لا بأس إن كانت ستعود بحفنة من الأصوات السنّية إلى جعبة جبران باسيل.

لا شك أن قرار سعد الحريري الذي طال انتظاره خاصة من قبل تياره الذي تاق لإطلاق صفارة عمل الماكينات الانتخابية وإعلان الترشيحات واللوائح، فإذا بجمهور تيار المستقبل والطائفة السنّية وجميع اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم ومواقعهم يرتعدون جراء زلزال اعتكافه لما له من آثار بنيوية سياسية هائلة على الصعيدين السنّي والوطني وهو ما فتح باب التساؤلات والتكهنات على مصراعيه حول الأسباب الحقيقية الكامنة وراء القرار الزلزال، إذ إن باعتقاد الجميع أن هناك قطباً مخفية شكلت دوافع اعتكافه وهناك أبعد بكثير من جملة الأسباب التي أعلن عن مسؤوليتها في اتخاذه للقرار الكبير.

وعلى الرغم من رسالة النسر الذي يولد من جديد التي بعث بها بعد أقل من 24 ساعة من إعلان قراره الصادم مما نفخ الروح في آمال محبيه المعلقة على حبال المسار والمصير المنتظر، إلا أن هناك فئة تراهن على نهاية سعد الحريري رجل الدولة الهادئ الذي لطالما أولى دماء اللبنانيين الأهمية القصوى مسقطاً الكراسي والمكتسبات عند أقدام السلم الأهلي والعيش المشترك، نهاية مزعومة من قبل الذين لا يستطيعون الجلوس على كرسي برلماني أو وزاري في حضرة الخيار الوطني الكبير الذي أظهر آخر استطلاع للرأي تأييده بنحو 70% من الشارع السنّي.

أبواب بيت الوسط مشرعة أمام الأوفياء، منسقيات تيار المستقبل تكمل عملها كالمعتاد والرئيس سعد الحريري عائد قبل الرابع عشر من شباط، حالٌ يبعث برسالة إلى الحريصين المستجدّين على الطائفة والمشروع والوطن الذين ينطقون حقاً من أجل باطل في أنفسهم: “لا تكونوا حريريين أكثر من سعد الحريري إذ مهما اعتقدتم أن تحليلاتكم بلغت حدَّ التصويب أو القراءة السياسية العميقة لقراره التاريخي فهو نفسه يدرك طريقه السياسي ومطلعٌ على وقائع حقيقية غير متوافرة بين أيادي أي كان ويملك ما لا يملكه أحدٌ من معطيات كبيرة بحجم قرار تعليق عمله السياسي”.

سعد الحريري ومحبوه وثالثهما الوفاء لمسيرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري التي قامت بإحدى جناحيها على منع الحرب الأهلية في لبنان هم صامدون في متابعة مسيرة درب جلجلة المستقبل، “لن أكون حريرياً أكثر من سعد الحريري شعار المرابط إيماناً بمشروع رفيق الحريري بزعامة ولده الذي رفعه رايةً لتيار المستقبل”.

هَزُلَ المشهد اللبناني إثر تعليق أحد أبرز أعمدته للعمل السياسي، وعلى وقع التسابق نحو التبرؤ منه والمزايدة عليه بفعل خطوة لا يتجرأ أي سياسي سلوكها سينصف التاريخ سعد الحريري هذا الرجل الوطني في زمن نَدُرَ فيه الوطنيون، فهو إذ اختار الاعتكاف على ألَّا يسلك أبناء وطنه طريقاً لا تحمد عقباه يدركون أين وكيف يبدأ ولكن يجهلون أين وكيف ومتى ينتهي!. فأي خطاب يحمل في جعبته إلى اللبنانيين والحريريين والمستقبليين في الذكرى الـ 17 لاغتيال رفيق الحريري؟

شارك المقال