ظاهرة البلاء

علي نون
علي نون

الظاهرة العونية التي لمعت في البلاء اللبناني وتجلت فيه أكثر من غيرها، على الرغم من تجليات ذلك الغير الكثيرة والكبيرة والصغيرة والخطيرة… سجلت في دفتر أفراحها وأحزان اللبنانيين ارتكابات، كانت ولا تزال وستبقى سوابق في التاريخ الوطني عموماً، وفي تاريخ المسيحيين خصوصاً .

الظاهرة ترادف الأنا المتضخمة، وهذه تعني أشياء كثيرة في مسيرة وصيرورة أنصاف الآلهة وأصحاب الرسالات الوضعية والواصلين حكماً، في السياسة والعسكر وأقدار الدول وشعوبها، بل في كل شأن ذاتي أو عام، إلى إيمان كل مضروب بها بأنه الأحق في كل شيء، والأعلم في كل شأن، وصاحب الحظوة في كل فرصة، والسيد الوحيد للقرار، والعارف الأكيد بالمسار والأسرار، والآمر الذي لا يجادل، والقائد الذي لا يناقش، والزعيم الذي لا يخطئ، والمرشد الذي يعرف كل الطرق وإلى أين تصل، والسراج المضيء الذي لا ينوص، والرئيس الذي لا أحد غيره يستحق الرياسة بل لا شيء سواه يستحق الحياة، حتى لو كان ذلك “الشيء” بلداً بكل بنيته وبنيه !

أفرزت تلك الظاهرة الأنوية كوارث ومصائب بالجملة في دنيا العرب أكثر من غيرهم، أقله منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. بحيث إن صدام حسين مثلاً، لم يرضَ بأقل من جعل العراق حطامًا تامًا طالما أن الخيار كان بين دوام حكمه أو إنقاذ البلد! ومعمر القذافي بقي حتى اللحظة الأخيرة “يتأسف” على عدم استحقاق الليبيين له! وقلة وعيهم وتقديرهم لقيادته وثورته وأنجازاته، فأخذ معه ما بقي سالماً ومعافى من ليبيا بعد أربعة عقود من إشعاعات كتابه الأخضر عليها! وبشار الأسد مصمم على أن لا يترك في سوريا حجراً على حجر ولا بشراً قرب بشر قبل، أو مقابل، اندحاره عما بقي من حكمه، وفق انشودة “حرق البلد” الأثيرة عنده ولديه! وغير هؤلاء كثر… لكن من ألطاف رب العالمين بلبنان أنه صعب واستثنائي، وليس هيناً ولا عادياً: تعدديته هي أحد أسباب ضعفه وركاكته لكنها في الوقت نفسه أحد أسباب عصيانه واستعصائه على الحكم الأنوي الفردي الديكتاتوري والمريض حكماً وشرعاً، ولولا ذلك لأصابنا ربما ما أصاب غيرنا من عطايا ونعم وخيرات الظاهرة العونية تلك!

في مطالع ظهورها على العالم لم يجد صاحبها هدفا اقل من استحضار نابليون بعد الثورة الفرنسية، فأخذه الهوس إلى الشطط في التفسير والتشبيه وراح يضرب في كل اتجاه وبكل ما ومن يقف في طريقه ولا يؤدي له تحية الخضوع… من الإعلام إلى الأحزاب السياسية إلى الشخصيات المستقلة إلى بكركي نفسها والى غيرها المماثل لها في مرجعيتها عند الآخرين وصولاً إلى نواب الأمة الذين راحوا بعيداً وارتكبوا اتفاق الطائف الذي صار دستور الجمهورية بعد أن أنهى حروبها أو يفترض ذلك .

والسيرة معروفة ومملة من كثرة التكرار وفي جملتها وتفاصيلها، لكن الفظيع هو أن صاحبها لا يذكر بها ويستحضرها وفق سردية أنا فلان فقط … بل يعمل بهديها مجدداً: يشن حروب إلغاء بالجملة ويستعيد شبابه بصهره المصون والمؤهل الوحيد لمتابعة السير على طريقه وخطاه… وعلى هذا الطريق وتلك الخطى يستهدف الربع عن شمال وعن يمين، من سليمان فرنجية إلى آل الجميل، ومن بطرس حرب إلى إيلي الفرزلي، ومن شامل روكز إلى غيره العشرات من أهل الرعيل الأول الذي صدق الرواية وانغمس فيها وأكل الضرب.

واللافت هو أن الظاهرة العونية الصادرة جغرافياً ولفظياً عن مناطق الوجود المسيحي في لبنان، وعن أدبيات حفظ الحقوق والأدوار والمسؤوليات والمناصب، لا تفعل في واقع الحال، سوى الفتك بتلك الحقوق! وبكل “مركز” أو قرار أو منصب مسيحي، وأول ذلك ثلاثية رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش والبطريركية المارونية.

قبل وصول ميشال عون إلى ما وصل اليه أخيراً في بعبدا، لم يترك رئيسًا للجمهورية إلا ونكّل به إعلامياً وسياسياً، من أمين الجميل إلى الراحل رينيه معوض وبعده الياس الهراوي وصولاً إلى ميشال سليمان! ثم راح أبعد من روحة الراحل كميل شمعون مع البطريرك المعوشي وشن حرباً ضد بطريرك لبنان، الكبير والاستثنائي الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير. وبعد ذلك، عندما دب الخطى باتجاه المنفى المحلي في السفارة الفرنسية ثم الخارجي في فرنسا، لم يترك صفة سيئة أو مثلبة أسوأ إلا وألزقها بقيادة الجيش وبقائد الجيش! وهو الآن يتابع مباشرة أو عبر خليفته، التعرض للكبير والصغير وصولاً إلى جعل غادة عون بديلًا وحيدًا من مجلس القضاء الأعلى ورئيسه (الماروني) ومن القضاء برمته وبكل أصنافه وغرفه وأبوابه ومحاميه ونقيبهم (الماروني) ملحم خلف! ولا يحتاج الأمر إلى دلالات اضافية على كيفية “متابعة” الظاهرة العونية لـ”حقوق المسيحيين” لكن لا يجوز من باب الحصافة وتأكيد البيان، تغييب الحرب المفتوحة ضد حاكم مصرف لبنان (الماروني) رياض سلامة !

الأنا المتضخمة عمياء صماء، لا ترى إلا وجهها، ولا تسمع إلا صوتها، ولذا كان ولا يزال وسيبقى من أوجب الواجبات الأكيدات الملحات، تركها حيث يجب بعيدة عن الدنيا والواقع… وحدها لا شريك لها .

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً