الاغتيال المعنوي للسنّة: مطرقة الإرهاب وسندان الفساد

أحمد عدنان
أحمد عدنان

يرتكز المشروع الإيراني إلى فكرة تحالف الأقليات، أي تكالب المكوّنات الدينية في المنطقة ضد أهل السنّة والجماعة. ولو تأملنا المشهد الراهن، ولو عدنا الى الماضي القريب، لوجدنا في الخطابين الإعلامي والسياسي عقيدة ثقيلة ترمي السنّة بكل رذيلة.

ولنضرب بعض الأمثلة التي لا حقيقة لها الا في أوهام أصحابها :

1 – بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، عمل ورثته على إصدار قانون خاص يسري ليوم واحد فقط، يعفي آل الحريري من دفع ضريبة الإرث للدولة اللبنانية، والطريف ان هذا القانون ليس له نص ولا رقم ولا وثيقة رسمية، والأطرف أن من يتحمّل مسؤوليته هم آل الحريري وحدهم، لا البرلمان الذي يرأسه نبيه بري وفيه اغلبية موالية للوصاية السورية، ولا الحكومة التي يرأسها عمر كرامي، أي لا توجد أي مسؤولية على المحور السياسي الذي أطلق الشائعة او حلفائه على الرغم من تحكمهم في السلطتين التشريعية والتنفيذية آنذاك، فضلا عن إميل لحود في رئاسة الجمهورية، مع التأكيد أن هذا القانون لا وجود له مطلقا.

2 – طرابلس هي تورا بورا او قندهار، وقد ردّت طرابلس مرة تلو مرة على هذه الفرية، وآخر الردود وأبلغها الصورة التي قدمتها المدينة خلال ثورة تشرين، مع التأكيد ان هاجس محور الممانعة وتحالف الاقليات هو تحويل طرابلس لتورا بورا.

3 – أهل عرسال إرهابيون، وتيار “المستقبل” دواعش، وقد شاهدنا جميعا من يحمي الإرهاب ومن هم الدواعش، أصدر بشار الأسد عفوا خاصا عن الإرهابي شاكر العبسي، وأطلقه في شمال لبنان ليؤسس تنظيم فتح الإسلام، وحين استولى التنظيم الإرهابي على مخيم نهر البارد، قال الأمين العام للحزب الإلهي “النهر البارد خط أحمر”، وفي المقابل، كان من أصدر القرار السياسي لدحر الإرهاب هو الرئيس فؤاد السنيورة. وبعد مرور سنوات، حين انطلقت عملية فجر الجرود 2017، تضامن اهل عرسال مع الجيش، في حين عقد حزب الله صفقة مع داعش نقلت مقاتلي الاخيرة إلى دير الزور وإدلب بحافلات مؤسسة المهدي التابعة للحزب.

4 – بخصوص تيار المستقبل الداعشي والفاسد، وهذا ما قاله التيار الوطني الحر رسمياً وعلنياً، تحالف العونيون مع المستقبل في الانتخابات البرلمانية ثم في الحكومة، وسموا الرئيس سعد الحريري في الاستشارات النيابية الملزمة غير مرة، ولا تحضر اتهاماتهم الا في الازمات السياسية.

التضليل الممنهج

وبعد التسوية التي أوصلت الجنرال ميشال عون إلى قصر بعبدا، وأعادت الرئيس الحريري إلى رئاسة الحكومة، تشكّل او انطلق لقاء رؤساء الحكومات السابقين، بهدف الذود عن الدستور والدولة، وصيانة الوحدة الوطنية، وتأكيد عروبة لبنان والتزامه بالشرعية الدولية، لم يعجب هذا اللقاء محور الممانعة فاستمر الهجوم والتضليل:

1 – بعد عملية فجر الجرود، أراد التيار العوني تحميل الرئيس تمام سلام منفردا مسؤولية خطف العسكريين اللبنانيين سنة ٢٠١٤ على الرغم من مشاركة العونيين الوازنة في حكومته، وحين طالب سلام برفع السرية عن محاضر مجلس الوزراء لتحديد المسؤوليات صمت تحالف الأقليات تماما ومطلقا.

2 – تم تحريك ملف ضد الرئيس ميقاتي حفظه المدعي العام المالي، ولا سبب للحفظ الا أنه لا توجد قضية من الأساس، فليست هناك مخالفة قانونية وليس هناك تطاولا على المال العام، انما قرض تجاري عادي من بنك تجاري مرموق مع فائدة ٦٪ وتم سداده. وحين اصبح الرئيس ميقاتي رئيسا للحكومة نسي الممانعون ملفهم المختلق.

3 – وفي السياق عينه، في مطلع الثورة، وبعد استقالة الرئيس سعد الحريري، حمّله تحالف الأقليات مسؤولية تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، وكأن حصته الحكومية والبرلمانية هي الثلثان، وكأنه هو الذي أرسل المرتزقة والميليشيات الى اليمن والى سوريا، وكأن تحالف الأقليات قبل الثورة لم يتفاخر بالعهد القوي وانجازاته الوهمية وعلى رأسها تكسير اتفاق الطائف. تحالف الأقليات لا يفكر بغير السلطة والتسلط والقاء المسؤولية على غيره، لماذا لم تفعلوا شيئا مع ان الاغلبية معكم؟ “ما خلونا نشتغل”، وفي المقابل “نحن العهد القوي وانجازاته”، وحين قامت الثورة: “الحريري هو سبب التردي”.

السنيورة هو السبب

وبين حين وآخر يتم شنّ هجوم على رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، وهو الهجوم الذي بدأ منذ عهد الوصاية السورية على لبنان، وسبب الهجوم الجديد / القديم باختصار، ان الرجل رأس حربة ضد المشروع الإيراني، وممثل حقيقي للدولة القوية، وإنقاذه للبنان من مؤامرات بشار الأسد، وتأسيسه للمحكمة الدولية. ومع ذلك خلاصة ما يقال اليوم، ان السنيورة هو رأس الفساد في لبنان، وهو سبب كل ديونه ومشكلاته المالية والاقتصادية، لذلك وجبت قراءة هذه الاتهامات بروية وكشف دوافعها عبر إقرار الحقائق فوق الطاولة:

1 – تولى السنيورة وزارة الدولة للشؤون المالية أعوام (1992/ 1998) وكان وزير المالية الأصيل هو الرئيس رفيق الحريري، ثم أصبح السنيورة وزيرا للمالية أعوام (2000/ 2004)، لذلك هو سبب كل المشكلات، وهؤلاء لا يلحظون حكومة سليم الحص (1998/ 2000) التي تولى فيها جورج قرم وزارة المالية، ولا يلحظون أنه تعاقب على وزارة المالية منذ 2004: الياس سابا، دميانوس قطار، جهاد ازعور، محمد شطح، ريا الحسن، محمد الصفدي، علي حسن الخليل وغازي وزني، ولا يحسب من هؤلاء على السنيورة الا ثلاثة اداروا وزارة المال 6 سنوات من 18 سنة، ومع ذلك السنيورة هو سبب كل المشكلات والأزمات، حركة أمل تتولى وزارة المال من 8 سنوات وفي عهدها حصل الانهيار، لكن السنيورة أيضا هو السبب.

2 – السنيورة هو سبب الدين العام على لبنان، وهذا غير صحيح، فسبب الدين العام هو الحرب الأهلية، ولا ننسى الأحداث السياسية التي فاقمت الوضع الاقتصادي بالسالب، كتداعيات الربيع العربي والأخطر حرب تموز، ونذكّر برفض التيار الوطني الحر للمبادرتين الكويتية والألمانية لحل أزمة الكهرباء مما ساهم في استمرار تفاقم الدين العام. لكن الأهم من كل ما سبق، ان قرار استدانة الدولة يعود لمجلس الوزراء مجتمعا، الذي شاركت فيه أغلب او كل القوى السياسية، والسؤال البسيط الذي يستحق الطرح: حين خرجت وزارة المال من تيار المستقبل بصورة موقتة او دائمة، او حين تقلص نفوذه في الحكومة او غاب عنها، لماذا لم يفعل أحد شيئا؟!، الجواب السهل في هذه الحالة: السنيورة هو السبب.

3 – تولى السنيورة رئاسة مجلس الوزراء أعوام (2005/ 2009)، أي أنه غادر السلطة التنفيذية منذ 13 سنة ومع ذلك يستمر سببا لكل المشكلات، وكأنه لم تأت اي حكومة بعد حكومتيه، مع العلم أن معدلات النمو خلال فترته – وهي الفترة المثقلة بالأزمات – كالتالي: 2005: 2.7% _ 2006: 1.6% _ 2007 / 2010 (على الرغم من الاعتصامات والاغتيالات و٧ ايار): 9.2%. المهم أنه حين يكون معدل النمو 0% سنة 2019 يكون السبب هو السنيورة الذي ترك الحكم في 2009.

4 – وفي مرحلة 2005 / 2009 نجد ان الأرقام كلها تصب لمصلحة الحكومة: ضبط العجز الى 7.55% من 11.04%. انخفضت نسبة الدين العام من الناتج المحلي الى لـ138.39٪ بعد أن وصلت في سنة حرب تموز الى 185.19%. اما الاستثمار الاجنبي المباشر فأرقامه ممتازة: “بلغت تدفقاته 3.38 مليارات دولار عام 2007، و4.33 مليارات عام 2008، و4.8 مليارات عام 2009، و4.28 مليارات عام 2010، ونتيجة لذلك قفز الاستثمار كنسبة من الناتج الى 38% نهاية العام 2010 مقابل 23.05% عام 2004”. ولا أعتقد أن راس المال الجبان يأمن على نفسه في ظل حكومة فاسدة، وهذا يشمل العامين الأصعب: “زاد الاستثمار الاجنبي المباشر لـ2.62 مليارين عام 2005 و2,67 مليارين عام 2006”.

5 – السنيورة سرق مساعدات حرب تموز، وهذه التهمة تفنّدها الحقائق، واهمها إشادة الدول المانحة والأمم المتحدة بتعامل الحكومة مع المساعدات (راجع مذكرات الوزير عبدالعزيز خوجة الصادرة عن دار جداول)، وهذا التعامل قام على مبدأين: إقامة المشاريع وفق مشيئة الواهب ومتابعته، وصرف تعويضات الأفراد مباشرة للمستفيد الأول، وقد تسببت التعويضات بالذات في أزمة كبيرة مع حزب الله الذي اراد ان يكون وسيطا بين الحكومة وبين المتضررين، وحين رفضت الحكومة اتهموها بالفساد، وللتذكير فقد أجبر الحزب الإلهي بعض المتضررين على دفع تعويضاتهم لشركات عقارية تابعة له، وحين ظهرت العيوب في مشاريعها حملوها لحكومة السنيورة.

6 – فرية سرقة السنيورة لـ11 مليار دولار من أموال الدولة، والكذبة واضحة من ضخامتها، وهي تشير الى جهل مطلقها فوق كذبه، نظرا لعدم معرفة ان هناك فارقا بين حساب الموازنة وحساب الخزينة، وهذا ما اكده المدير العام للمالية ألان بيفاني المحسوب على التيار الوطني الحر المعادي للسنيورة “معروف ومسجل كل قرش وين انصرف”، والطريف ان هذا الاتهام لم تطلقه أي جهة اكاديمية او رقابية في لبنان، ولم تنتبه له كل المؤسسات المعنية بالشفافية او الاقتصاد او مكافحة الفساد حول العالم، علما أننا لو عمّمنا الجهل الذي في هذه التهمة الى الحكومات ما بين 2010 و2018 لاتهمنا الرؤساء الحريري وميقاتي وسلام وحكوماتهم بسرقة 16 مليار دولار. إذا كان السنيورة قد سرق 11 مليار دولار، كيف تم تعيين وزير المال في حكومته (جهاد أزعور) مديرا لإدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي؟

7 – كيف يشيد النائب سليم سعادة (وهو من الحزب القومي السوري النقيض لتوجهات السنيورة السياسية) ذات جلسة موازنة بشفافية وزارة المال زمن السنيورة الفاسد؟ كيف تجتمع الشفافية والفساد؟ (قدمت حكومة السنيورة مشروع قانون “من اين لك هذا” الى مجلس النواب، ولم ينظر فيه إلى يومنا هذا).

8 – القول أن الرئيس السنيورة فاسد لأنه جاء من اسرة فقيرة واصبح ثريا حماقة جديدة، فاولا هو من اسرة ميسورة في صيدا، وثانيا ان الانتقال من الفقر الى الثراء ليس عيبا او جريمة، وثالثا هناك فارق بين الحرب على الثراء الذي يتبنّاه الحاقدون، وبين الحرب على الفساد الذي تتولاه الأجهزة الرقابية والعدلية.

9 – القول أن الرئيس السنيورة طرد من لجنة الرقابة على المصارف سنة 1982 بسبب الاختلاسات والرشوة، وقد رد على هذه الفرية حاكم مصرف لبنان الأسبق ميشال خوري: “لم يطرد بل انتهت ولايته، وقد مارس مهامه بكل مهنية وصدق ومسؤولية ومناقبية، وقد قدمت استقالتي احتجاجا حين رفضت الحكومة التجديد له”.

10 – ثبّتت حكومة السنيورة حق لبنان في تعويض اقرته الامم المتحدة لاحقا (تشرين الثاني 2021) بدفع أكثر من 856 مليون دولار للبنان بشكل فوري، تعويضا عن بقعة زيت تسببت فيها غارة جوية إسرائيلية خلال حرب تموز عام 2006. وكالعادة حين اعلن التعويض لم يكن السنيورة السبب.

11 – وتتوازى الحملة على الرئيس السنيورة مع حملة أخرى على الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولا رد عليها الا بالحقائق والارقام، فعهد الرئيس الحريري كان عهد عودة المغتربين لا هجرتهم، وكان عهد الاعمار لا الدمار، ولا بأس بالعودة الى منهج الأرقام مرة أخرى: “بلغ النمو 3.9% عام 2001 و3.4% عام 2002 وصولاً الى 1.7% عام 2003، و5.06% نهاية 2004”.

12 – قد نتفهم الحملة على الرئيسين الحريري والسنيورة، لكن ما لا يمكن تفهمه هو الحملة على القاضي في محكمة العدل الدولية نواف سلام – حين طرح اسمه مرشحا لرئاسة الحكومة من قوى ثورية – الذي لعب دورا موثقا لنصرة القضية الفلسطينية (راجع كتاب “لبنان في مجلس الامن”)، الا إذا قرأنا هذه الحملات في سياقها الصحيح والبغيض: السياق الطائفي في اطار نظرية تحالف الاقليات، والسياق السياسي بالشعبوية وتصفية الحسابات، واتهام الفاسدين لغير الفاسدين بالفساد، والحرص على استضعاف وإلغاء مقام رئاسة الحكومة.

التشخيص السليم واسترداد الثقة بالنفس

يمر لبنان اليوم بلحظة تاريخية تشبه لحظة مصر في ثورة 25 يناير، مرحلة الكفر بكل شيء، لكن حين تذهب السكرة بحضور الفكرة والحقيقة، لن تبقى غير لغة الأرقام والقانون، اللغة التي يهرب منها الجميع هذه الأيام لسببين، الأول أن الفسدة يريدون توجيه سهام اللوم والاتهام إلى غيرهم كي يستمروا في طغيانهم، أما الثاني فهو ان البعض لا يرى وجودا له او مستقبلا إلا فوق أنقاض الآخرين صالحهم وفاسدهم.

إن أهل السنّة والجماعة، وهم حزب الدولة وحمضها النووي في المنطقة، بحاجة ماسة إلى الثقة بالنفس، وسيصعب استرداد الثقة مع الانسياق خلف فرية تحالف الأقليات: السنّة هم إرهابيو الأمس وفسدة اليوم. وهذه الفرية تم ترويجها عبر ما يسمى “المجتمع المدني المقاوم”، وهو جناح مدني يتبع الحزب الالهي مهمته اختراق المجتمع المدني، كما ميليشيا سرايا المقاومة التي مهمتها اختراق الطوائف الأخرى وإذلالها.

هذا الكلام لا يعني ان السنّة فوق القانون، او انهم شعب الله المختار، بل على العكس تماما، ما نراه ماضيا وحاضرا هو أن السنّة وحدهم تحت سقف القانون، وهذه مفخرة لا مذمّة، إذ يجدر التذكير بحملة الوصاية السورية على الرئيس رفيق الحريري، والتي اتهمت رجاله بالفساد، ومنهم فؤاد السنيورة وعبدالمنعم يوسف ومهيب عيتاني، وانتهت بأحكام نهائية بالبراءة من أعلى سلطة قضائية، وما جرى بالأمس ويجري اليوم يؤكد حقائق بديهية: استخدام شعار الحرب على الفساد من اجل تصفية حسابات سياسية وطائفية او اتهام الأبرياء هو الفساد بعينه. إن العملية القانونية لم تحاسب من اتهم بريئا بالفساد، ولم تتجه البتة لمحاسبة الفسدة الحقيقيين، والفساد للأسف عابر للطوائف والملل والنحل بلا استثناء.

ثمة ملفات حقيقية لم يقترب منها أحد مع أنها لبّ الفساد بأصله وفصله، كملف الطاقة والتهريب الجمركي والمعابر غير الشرعية، وحماية الخارجين عن القانون، لأن التطرق لهذه الملفات يكشف الحقيقة التي تزعج البعض، تلازم مساري الفساد والسلاح غير الشرعي. ومن نافل القول التذكير أن الحرب على الفساد وسيلة للوصول إلى سيادة القانون ودولته. إن دولة القانون تعلن الحرب على الجريمة لا الفساد فقط، ومن ذلك غسيل الأموال والمتاجرة بالمخدرات وبالبشر، وقد صدرت أحكام نهائية ضد حزب الله في هذا الباب في كل قارات الأرض، وهذه الاحكام قبل سواها سبب العقوبات الاقتصادية في لبنان.

إن الاغتيالات جريمة نكراء، والسكوت عنها فساد، وحماية الخارجين عن القانون فساد، وتعطيل التحقيق في انفجار مرفأ بيروت فساد. وفوق ذلك، طوال 15 سنة شاهدنا حزب الله يمارس الفساد السياسي من دون حسيب او رقيب، ومن ذلك تعطيل المؤسسات، والالتفاف على نتائج الانتخابات ببدعتي الثلث المعطل في الحكومة والحوار الوطني خارج المؤسسات. وقد اتحفنا رموز تحالف الأقليات بمحاضرات متنوعة عن فشل حكومات الوحدة الوطنية متناسين ان حزب الله عطّل الدولة نحو سنتين من اجل تكريسها، ومن تلك المحاضرات أيضا التنظير بفشل اتفاق الطائف، وكيف يعقل ان ينجح الاتفاق مع تعطيله وتفريغه من محتواه بقوة السلاح؟!. لم يقل احد ان الطائف يلبي كل مطالب الثوار: الغاء الطائفية السياسية وانتخاب مجلس النواب خارج القيد الطائفي، وانتخاب مجلس شيوخ يمثل الطوائف، وقبل ذلك كله حل الميليشيات وتبني اللامركزية الإدارية.

إن قضية تفجير المرفأ تلخّص العلّة الحقيقية في لبنان، فقد تخزّنت نيترات الامونيوم لمصلحة محور الممانعة (مؤخرا، صدر حكم قضائي في الدنمارك يدين الشركة المالكة لسفينة الشحن روسوس بالتهريب الى سوريا والالتفاف على العقوبات، فضلا عن تقارير مستقلة أشارت بالاسم الى رجال أعمال مقربين من بشار الأسد)، واغلب الاتهامات في التحقيق القضائي اللبناني تشير إلى أسماء في محور الممانعة، ومع ذلك تريدنا الميليشيا الإلهية أن نصدق أن المعارضة السورية هي مالكة النيترات، وان قاضيي التحقيق مسيسين، وان العالم كله متآمر، ولم تجاوبنا الميليشيا لماذا حمى حلفاء الأسد وايران برموش العين ذخائر خصومهم، وفي النهاية انفجرت الذخائر في وجه المدنيين العزّل والآمنين، وفوق ذلك فإن التحقيق في القضية ممنوع، والممنوع أيضا التذكير بانه تم حظر النشاط السياسي للميليشيا في اكثر من دولة حول العالم بسبب ضبط ومصادرة تلك الذخائر في مخازن تابعة للميليشيا في بريطانيا وألمانيا. إن المنطق الأعوج الذي تتحدث به الميليشيا في قضية المرفأ هو عينه الذي تتحدث به عن إرهاب السنّة وفسادهم: رمتني بدائها وانسلت.

إن ظاهر أزمة لبنان اليوم اقتصادي، لكنه في حقيقته سياسي، فبلغة الأرقام المعنية بالتدفقات المالية الى لبنان ومعدلات النمو، تظهر ثقة المجتمع الدولي بالدولة قبل تمكن حزب الله وتحالف الأقليات منها، وبدأت الثقة بالتراجع بدءا من العقد الثاني في الألفية، ثم جاء الانقطاع بعد التسوية الرئاسية، أي ان لغة الأرقام تقول بوضوح لا لبس فيه: الثقة معدومة بأتباع إيران وتحالف الأقليات، وبأي تيار مهادن لهما، ولهذه الحقيقة سببان، اولهما الفساد، وثانيهما سياسي متمثل بتحويل لبنان أداة إيرانية في مشروعها المارق. وإذا وصل الحديث للتسوية التي يلام عليها سعد الحريري وسمير جعجع يتناسى البعض ان سبب التسوية هو ان حزب الله خيّر اللبنانيين بقوة السلاح غير الشرعي بين خيارين: إما الفراغ وإما مرشحنا، ثم إما الفراغ وإما الفوضى، ولا غرابة في ذلك، فهو يرتكب الجريمة ثم يحاسب خصومه عليها، وحين يرضى القتيل لا يرضى القاتل.

شارك المقال