رفيق… ما زلنا ننام ونصحو على حلمك

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

كانت الساعة الواحدة إلا ثلثاً، حين انطلقت بسيارتي كما العادة، من منزلي في رأس النبع، نحو مقر عملي في جريدة “المستقبل”، عبر خط كورنيش المزرعة. الساعة تشير إلى الواحدة إلا خمس دقائق، في يوم 14 شباط 2004، وكنت قد وصلت إلى تقاطع الكولا، فجأة اهتزت بيروت، بدأت أفتش عبر الإذاعات عن خبر ما: إنه انفجار كبير في منطقة “السان جورج”. خيط من النيران كان يرتفع نحو السماء، وأنا أسابق السيارات وأتطلع إلى وجوه الناس المتسائلة والمصدومة، وإلى حركات الخوف التي طبعت أصحاب المحال والعابرين. التوتر يتعالى، والدموع حبيسة.

لا أعرف كيف وصلت إلى الرملة البيضاء، والأسئلة تتزاحم في رأسي، أي لعنة ستصيبنا بعد محاولة اغتيال مروان حمادة؟ وعلى من سيتجرأ “حزب الله” هذه المرة بعد إرسال رسائله بتقديس شبكته الهاتفية باسم مقاومة اغتالت وقتلت لبنانيين أبرياء أكثر مما ألحقت خسائر بالعدو؟. إنها بداية الهيمنة وإعداد الأرضية لبناء الدويلة.

الأجواء السياسية كانت معكرة، بعد التمديد للرئيس إميل لحود، الذي أراده النظام السوري جرعة سم للمعارضة اللبنانية التي كانت تطالب بتطبيق الطائف وبنود الدستور وانسحاب الجيش السوري. لكن السؤال الكبير هل تعكير الصفو السياسي مع “الأشقاء” و”شعب واحد في دولتين” و”الأخذ والرد” في النقاشات، و”كسر الأيدي” في مراكز المخابرات، يمكن أن يأخذ البلاد إلى زلزال يدمر كل ما جرى بناؤه من أجل لبنان؟

أخيراً وصلت، في القاعة الكبيرة كان الزملاء يأتون تباعاً، التلفزيونات بدأت بثها المباشر من مكان الحدث، دخلت إكرام تسأل عن مصير شاب من مرافقي الرئيس رفيق الحريري، وأنا أتوجس ولا أجرؤ على السؤال الكبير لا بل الجواب الأكيد أن المستهدف كان الرئيس الحريري؟

جاء مروان. جلس في زاوية على الأرض. كان في مبنى “ستاركو”، هرب وأتى إلى مكاتب الجريدة، ثم بدأ بالنحيب متأثراً مما شاهده عن قرب، ومن دون أن يجزم، كان علينا الاستنتاج فوراً بأن رفيق الحريري استشهد، والأكيد أن النائب باسل فليحان كان في سيارته.

أخذت الصور تتوالى تباعاً، بيروت لم تعد نفسها، أقفلت المحال، تسارعت حركة الناس، الجميع يبحث عن وجهة، بدأت التجمعات أمام قصر قريطم، أنا ذهبت في مهمة إلى مستشفى الجامعة الأميركية، هناك كان السياسيون يتوافدون ولا يخفون دموعهم، ذهب رفيقهم.

أمام باب المستشفى شباب يهتفون “من طلوع الروح”، نساء يندبن، رجال يبكون رجلاً قلَّ أن عرفوا مثله. كل الأوجاع انفجرت، كل الآمال ماتت، كل الأحلام اندثرت، كل الصرخات المكبوتة انطلقت مرة واحدة. كسر اللبنانيون خوفهم، التقوا من جميع الطوائف والمناطق والاتجاهات السياسية، باستثناء جماعة “شكراً” و”خوش امديد”، ليطالبوا بالعدالة وإنهاء الاحتلال السوري.

كانت بيروت حزينة، يتيمة، فقدت بسمتها. لم يبق في الشوارع سوى صراخ الناس غير المصدقين أن رفيق رحل ولم يعد بينهم. رحل من بنى مدينتهم ومدارسهم وجامعاتهم ومستشفياتهم، ورمّم عماراتهم ومؤسساتهم ومقرات دولتهم، وجدد أرصفتهم وشوارعهم وشق طرقاتهم، وأنار بيوتهم ووفر مياههم، ودعم تحررهم واستقلالهم، وحافظ على حرياتهم، وعلى دستورهم وعلى الحياة الديموقراطية في البلد.

كان حلمه كبيراً. حقق الكثير الكثير، وعد ووفى، ولم يهب التهديدات، على الرغم من معرفته بأنه مستهدف. أليس هو من صارح جنبلاط بالقول: “إما بيقتلوك أو بيقتلوني”.

رحل رفيق الحريري، وكل يوم نفتقده أكثر، هو من جعلنا نعيش جنة لبنان، أعاد لنا وطناً من حرب أهلية وجعل منا مواطنين، نعانق بعضنا البعض، نختلف، نتعايش ونتخاصم بديموقراطية. إلا أن البعض أراد أن لا نكون، أراد أن يلغي الآخر بقوة السلاح والقتل والتعالي وحتى الجحيم.

رفيق الحريري لن ننسى ولن نسامح، أصارحك بأن وضعنا مأساوي لكننا ما زلنا ننام ونصحو على حلمك.

شارك المقال