زيارة باسيل لموسكو: مطالب صغيرة بشعارات كبيرة وثلث معطل مواربة

وليد شقير
وليد شقير

استخدم النائب جبران باسيل العاصمة الروسية منبراً للتبشير بأفكاره التغييرية للنظام اللبناني، معاكساً بذلك الهدف من دعوته إلى زيارتها في إطار مسعى من موسكو لتسريع ولادة الحكومة.

وتحولت زيارة رئيس “التيار الوطني الحر” إلى العاصمة الروسية مناسبة لطرح النظريات حول المشرقية وسوقها الاقتصادية، الهاربة من العروبة، فباتت الزيارة الروسية منصة للترويج لموقف يهدف إلى الإمعان في إبعاد لبنان عن الدول الخليجية التي يحتاج أكثر من أي وقت لاستعادة المسار التاريخي للعلاقة معها. وعلى رغم أن تصحيح هذا المسار صار حاجة ملحة كعامل من عوامل التعافي الاقتصادي، في ظل الأزمة الجديدة الناشئة بعد التمادي في استخدام البلد من أجل تهريب المخدرات إليها، يهرب فريق “التيار الحر” من مساءلته على تغطيته المتواصلة لإفادة إيران من هذه المنصة عبر “حزب الله”، لتقويض أمنها عبر تدريب وتوجيه الميليشيات الحوثية لقصف الأراضي السعودية.

وبصرف النظر عن تساؤل خصوم “التيار” حول الفائدة من تغليف أفكار الانعزال بالحديث عن سوق مشرقية في وقت تمر كل من الدول التي يدعو لضمها إليها بأسوأ أزماتها الاقتصادية فإن واقع الأمر هو أنه يصعب على أي منها الإفادة من الأخرى، لأنها تحتاج إلى من يسندها، لتتمكن من اجتياز أزماتها. تكفي وقائع محاولات التقارب بين بغداد والرياض ودول الخليج، التي يقودها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ومحاولة فتح أبواب التعاون بين الدولتين كي يكتشف المرء الوجهة التي تذهب إليها إحدى الدول التي يريدها من ضمن السوق المشتركة. ويكفي النظر إلى مراهنة النظام السوري على تحسين علاقته بدول الخليج كي تساعده في العودة إلى الجامعة العربية، وسعيه لابتزازها بطلب دعمه مالياً، وإغرائها بأنها بذلك تعينه على الابتعاد عن إيران بغض النظر عن النتيجة. ويكفي التذكير بحاجة الأردن المتواصلة للدعم الخليجي من أجل مواجهة أعباء النزوح السوري وصعوبات مواجهة مفاعيل جائحة كورونا… على اقتصاده. وإذا كان باسيل اهتم بالاستفسار من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال لقائه به، عن جولته الخليجية الأخيرة حيث بحث الأزمة السورية وسائر قضايا المنطقة، قد يكون اطلع على جانب من الأهمية التي يوليها الدب الروسي للعلاقة مع هذه الدول في المشهد الجيو سياسي، على رغم أنه حليف أساسي لإيران. لكن باسيل بقي غارقاً بهموم الحصول على وزيرين إضافيين في الحكومة التي يسلم أنها من الاختصاصيين، ثم ينسف صفة الاختصاص عنها بالإصرار على حقوق رئيس الجمهورية بتسمية وزراء فيها، كي يضمن ولاء هؤلاء الاختصاصيين.

يغلف باسيل بشطحاته مطالبه الصغيرة بالدعوة إلى مائدة لا صحون طعام عليها، في زمن يحتاج اللبنانيون إلى قيام حكومة يعيق وفريقه ولادتها، سمعت منه موسكو نماذج منها جعلت ديبلوماسيين فيها يستنتجون بأن زيارته فاشلة. فهو كرر أمامهم مطالبه الصغيرة إياها ومناوراته المتناقضة التي يعرفونها. وعلى رغم أن التحفيز على دعوته سبقه وعد بأن يقابلها بالإيجابية وبتسهيل أمور ولادة الحكومة التي يحرص على تسريعها الكرملين، كما جاء في بيان وزارة الخارجية بعد استقبالها لباسيل، فإن الأخيرة لم تحصد من الزيارة سوى التأكد من أن فريقه على موقفه من التعطيل. تأكد المسؤولون الروس بأنه ينفي مطالبته والرئيس ميشال عون بالثلث المعطل، لكنه يعيد طرح مطلب تسمية الوزيرين المسيحيين المتبقيين من حكومة ال24 على قاعدة الثلاث ثمانات، بحيث يصبح لعون حق تسمية الثلث زائد إثنين، بحجة أنه لا يحق للرئيس المكلف سعد الحريري تسمية وزراء مسيحيين. وكما قال في مؤتمره الصحافي إنه “إذا كان الحريري يقبل بتعيين رئيس الجمهورية لوزراء مسلمين فلا مانع بأن يعين هو وزراء مسيحيين ولبنان بلد المناصفة وقبول بعضنا للبعض الآخر… ويجب أن يقبل الحريري بأن يُمثّل السنة الآخرون في الحكومة وأن يسمي رئيس الجمهورية من المسلمين الآخرين”، أبلغ الموقف نفسه لنائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف.

رد التهمة إليه بالسعي للحصول على الثلث المعطل الذي أكد المسؤولون الروس رفضهم له، في الصيغة الحكومية المطروحة، فاتهم الحريري بأنه يعمل على الحصول على النصف زائدا واحداً ليسيطر على قرارات الحكومة، وأنه يشكل حلفاً مع نبيه بري ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية بهدف الحؤول دون الإصلاحات وإفشال توجهات العهد في هذا الصدد. وقال إن الحريري إذا حصل على الأرجحية في الحكومة يعني أن الإصلاحات ستفشل ولن تتحقق، لأن زعيم “المستقبل” لا يريد تحقيقها. واعتبر أن اتهامه بالسعي إلى هذا الثلث يهدف إلى تمكينه من أن يصبح رئيساً للجمهورية كلاماً فارغاً. إلا أن الجانب الروسي أدرك أن باسيل يسعى إلى الثلث المعطل مواربة، فإذا لم يحصل على تسمية الوزيرين المسيحيين، إضافة إلى الوزراء الثمانية الذين سيسميهم عون، بات المطلب تسمية وزيرين من الطائفة السنية.

اكتشف الجانب الروسي أن باسيل يريد الندية مع الحريري كرئيس للحكومة إذ اشتكى عليه لأنه يرفض الاجتماع به مع أنه التقى آخرين غيره، وأنه لم يقبل الاجتماع به في فرنسا حين استمزجت باريس الطرفين في شأن الفكرة. قال باسيل إنه مستعد للقاء الحريري أينما كان في الخارج، موحياً لمحدثيه الروس بأن يبادروا إلى دعوته والحريري إلى موسكو. وهو أمر كان المسؤولون الروس لديهم الأجوبة عليه، بأن الرئيس المكلف اتفق مع رئيس الجمهورية على تأليف الحكومة بالتفاهم معه وليس مع باسيل، وأن الرئيس المكلف لم يلتقِ منذ أنهى استشاراته مع الكتل النيابية أي من رؤسائها. وهو زار منذ تكليفه رئيس الجمهوري 15 مرة ورئيس البرلمان نبيه بري والبطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي مرتين. وحين نقل الجانب الروسي مأخذ “التيار الحر” على الحريري بأنه التقى جنبلاط كان الجواب بأن جنبلاط هو الذي زار الحريري. وإذا كان رئيس “التيار الحر” يريد الاجتماع بالحريري فباستطاعته أن يتصل لطلب موعد منه ويزوره، ويحصل اللقاء في بيت الوسط، فلماذا يلتقيه خارج البلد؟

يعرف الديبلوماسيون الروس الذين تعمقوا في تفاصيل التركيبة اللبنانية أن الحريري هو الزعيم الأقوى سنيا، وأن التوازن اللبناني يقضي بأن تكون الندية بين الرئاسات الثلاث. فالزعيم الأقوى مسيحياً الرئيس عون، الذي هو في الوقت نفسه رئيس الجمهورية، وأن الثنائي الشيعي يمثله بري في السلطة. أما باسيل فهو ليس الأقوى مسيحياً، فضلا عن أن المهتمين بالشأن اللبناني في القيادة الروسية يعتبرون أن الساحة المسيحية موزعة الولاءات بوجود أحزاب أخرى، حزب “القوات اللبنانية” والكتائب، ويحرصون على العلاقة الطيبة مع رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية.

أكثر باسيل من الضجيج في زيارته الروسية، لكن اللافت أنه عقد مؤتمره الصحافي في الخارجية من دون أن يشاركه فيه أي مسؤول منها. كان حاضراً أحد موظفي وكالة نوفوستي، وبعض الصحافة العربية. واللافت أيضا أن الوزير لافروف حين استقبله، أظهر وداً تجاهه كوزير خارجية سابق، لكنه تقصد الاستغناء عن البروتوكول الذي يستقبله من خلاله ضيوفه، بإلقاء كلمة ترحيبية بالضيف أمام وسائل الإعلام، ثم يترك للضيف أن يلقي كلمته. والسبب حسب العارفين أن لافروف علم بنتيجة لقاء باسيل غير الإيجابية مع بوغدانوف قبل أن يلتقيه.

يصعب تصور ارتياح موسكو إلى دعوة باسيل إلى تغيير النظام السياسي بحجة إصلاحه كما قال، لأنها تتمسك كغيرها من الدول الكبرى المعنية بلبنان، باتفاق الطائف. وفي الوقت نفسه لم يكن المسؤولون الروس منزعجين من تكرار باسيل دعوتهم إلى الاستثمار في لبنان، في الكهرباء، والمرفأ وفي النفط والغاز والتفاوض على الحدود البحرية. ومع حضور شركة “نوفاتيك” في التنقيب عن الغاز في البحر، هم يدركون أن لهذه الاستثمارات حسابات أخرى.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً