عون والخراب الثاني

عاصم عبد الرحمن

إذا كانت الغاية هي الوصول إلى السلطة والتي برّر من خلالها الوسائل التخريبية التي استخدمها الجنرال ميشال عون للسيطرة على كرسي بعبدا عام 1989 وما تكبده العباد والبلاد من تصدعات مادية وتداعيات معنوية رافعاً شعارات التحرير والكرامة والصمود، فأي تبرير تقدمه غاية توريث جبران باسيل الحكم حتى يتمَّ استخدام شتى أنواع وسائل الخراب الذي يقهر اللبنانيين؟

يوم كلف الرئيس السابق أمين الجميل الجنرال ميشال عون برئاسة حكومة عسكرية إنتقالية تؤمن انتخاب رئيس للجمهورية، كان الهدف منه الحفاظ على دور المسيحيين وموقعهم السياسي المحوري في زمن كانت تعصف به المتغيرات العربية والإقليمية، إلا أن جشع ميشال عون في الوصول إلى السلطة أملى عليه إسقاط كل احتمالات استمرار النظام السياسي الرئاسي الذي بموجبه يمتلك رئيس الجمهورية المسيحي صلاحيات تجعله متربعاً على عرش مملكة بدون أي منازع، لكنه أجهز على المؤسسات التي كانت لا تزال تتنفس، مجلس وزراء يشكك بشرعيته، مجلس نواب ممنوع من الإنعقاد والأكثر خطورة مؤسسة عسكرية منقسمة على نفسها تجسد انقسامها باستقالة الضباط المسلمين من الحكومة العسكرية، خاض حربَيْ الإلغاء والتحرير، راسل صدام حسين معلناً عروبته المطلقة، أشار بصداقته إلى إسرائيل ما إن يقبض على لبنان بشكل نهائي، وعلى قاعدة الشرقية والغربية التي رسمت البلاد آنذاك انهار لبنان اجتماعياً واقتصادياً وديبلوماسياً…

عاند الجنرال كل الدعوات التي أتته من قوىً وطنية خشيت فشل لبنان وأخرى مسيحية تملكها هاجس سقوط الدور المسيحي الفريد في الشرق، أسقط انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية الأولى فسقط النظام الرئاسي ذو القوة المسيحية المطلقة، وقع الخراب الدستوري الأول على يد القائد المسيحي الأول فتهشم الموقع المسيحي الأول.

ولد اتفاق الطائف الذي وضعت بموجبه بعض صلاحيات الرئيس لدى مجلس الوزراء مجتمعاً ولا شك أن أداء الجنرال إبان حكمه العسكري دفع إلى البحث عن هذه الصيغة الدستورية كي تحمي المؤسسات وتؤمن استمراريتها مهما عصفت فيها الأزمات السياسية.

وعلى طريق الطائف أدرك معظم المسيحيين أن الوجود السياسي والدور الوطني لم يتوقف عند سقوط ميشال عون وإسقاطه جمهوريتهم الكبيرة، فانخرطوا في الحياة السياسية التي أرستها وثيقة الوفاق الوطني وفق قاعدة مقدسة قوامها المناصفة بين المسلمين والمسيحيين وروحيتها الديموقراطية التوافقية جعلت من رئيس الجمهورية حكماً بين جميع اللبنانيين.

واقعٌ سقط لحظة وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية التي من أجلها يوماً أفسد الجمهورية. وإذا كان مبدأ التوريث أو التمديد الذي يعمل عليه سيد كل عهد رئاسي في السنة الأخيرة منه قد طبعت مراحل مختلف العهود الرئاسية إلا أن ميشال عون أطاح كعادته بكل الأعراف الدستورية والتقاليد السياسية المعهودة مطلِقاً حملة توريث جبران باسيل صبيحة اليوم التالي لانتخابه في 31 تشرين الأول 2016، ومنذ تلك اللحظة خلع ميشال عون ثوبه السياسي مستعيداً بزته العسكرية واضعاً حجر أساس الخراب الدستوري الثاني، مسار يستمر حتى الرمق الأخير من ولايته، تعطيل الاستحقاقات الدستورية، إيقاف التشكيلات القضائية والديبلوماسية والعسكرية من أجل غايات في نفس جبران، خلق أعراف سلطوية تصرخ مخالفةً في وجه دستور المناصفة، تغطية حروب “حزب الله” الذي يختطف قرار اللبنانيين ومستقبلهم وتخريبه علاقات لبنان الخارجية، تحويل الجمهورية إلى مملكة عونية – باسيلية، اختيار الزمان والمكان غير المناسبين لمحاربة الفساد، ترويض القضاء والمؤسسات الأمنية والعسكرية والمالية، دفن محاولات الإصلاح والإنقاذ في مهدها، خروجه عن المألوف الديبلوماسي في التخاطب، إطلاق مواجهات سياسية عبثية في وجه طوائف بعينها ليضع المسيحيين من حيث لا يدرون في اشتباكات مع شركائهم في الوطن، حتى بكركي وسيدها لم يسلما من رصاص الإستهداف السياسي، نسف الشراكة الوطنية تحت شعار حقوق المسيحيين، هؤلاء المسيحيون الذين يكادون يخسرون دورهم الوطني والشراكي اللبناني نتيجة مساهمة صاحب جلالة الموقع المسيحي الأول في سقوط الجمهورية الثانية، هذه الجمهورية التي لا تزال تصر على الشراكة والمناصفة في زمن يهيمن على القرار السياسي والمؤسسات الدستورية والعلاقات الخارجية سلاح “حزب الله” غير الشرعي والمشرعن إسقاط مفهوم الدستور والقانون والمؤسسات فهو لا يؤمن أساساً بمشروع الدولة اللبنانية.

وفي الوقت الذي يريد فيه ميشال عون صناعة إنجاز وهمي يبني عليه وريثه السياسي حملة الإنتخابات النيابية والرئاسية، هذا الإنجاز الذي يتوهمه الجنرال هو إسقاط المنظومة الحاكمة من المال إلى القضاء والأمن، يسقط طائف الشراكة تحت شعار مكافحة الفساد المزعوم بالتكافل والتضامن بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”.

قد يتساءل البعض عن حقيقة مسيحية ميشال عون أمام إسقاطه جمهورية قوة المسيحيين الأولى وجمهورية شراكة المسيحيين الثانية وفي الحالتين بهدف السيطرة والحكم، من أجل نفسه أولاً ومن أجل صهره ثانياً، فإلى أي جمهورية يذهب بالمسيحيين على مشارف السقوط الثالث؟

شارك المقال