في عقم العقوبات!

علي نون
علي نون

تلعب العقوبات الاقتصادية والمالية والديبلوماسية دوراً مؤثراً في آليات ردع الأنظمة المارقة والمتوحشة، لكنها لا تكفي لوقفها عند حدّها.

مثال روسيا بوتين واضح منذ العام ٢٠١٤ بعد إحتلال القرم وتسعير الحالة الانفصالية في شرق أوكرانيا. ومثال إيران أوضح، بحيث أن العقوبات الصارمة والقارصة لم تنجح في تغيير أجندة جموحها التخريبي، ولا في تعديل سلوك صاحب القرار فيها لا داخلياً ولا خارجياً. والأمر ذاته يسري على الطفل المعجزة في كوريا الشمالية، وعلى بشار الاسد وبقايا نظامه في دمشق مثلما كان الحال مع صدام حسين ومعمر القذافي.

في لغة الأرقام والحسابات تأتي العقوبات لمحاولة وضع المستهدف بها في أزمة عويصة، ولمحاولة تدفيعه أثماناً مادية صرفة مقابل انتهاكاته الداخلية الجسيمة لحقوق الانسان، وخروجه عن سوية العلاقات الخارجية الطبيعية بين الدول، ودفعه بالتالي الى تغيير أدائه السيء وعدم الإمعان فيه تبعاً لضمور قدراته على تمويل ذلك الأداء. والأمر في جملته هو سلاح بارد ومدني يُقصد به أن يكون بديلاً يؤدي وظائف السلاح الناري والمتفجر والحار! وهنا تماماً تبرز المعضلة العويصة وعقم الأداة والسلاح: تلك الأنظمة المُعاقَبة والمطلوب منها التراجع تحت وطأة العقوبات وانعكاساتها عليها وعلى رعاياها ومواطنيها، ليست معنية سوى بإحكام سلطتها وتمكّنها وسيطرتها. ولا تعني لها تبعات سياساتها السيئة على دولها ورعاياها شيئاً خارج احتمال تحرك هؤلاء ضدها بسبب تعاظم المعاناة المتأتية عن تلك الاجراءات الخارجية بما تعنيه مباشرة من تراجع مستوى العيش والخدمات وقيمة العملة الوطنية والقدرة الشرائية والتضخم وصعوبة التنقل والسفر وغير ذلك من شؤون هذه الدنيا وشجونها.

…والرهان على احتمال التحرك الداخلي ذاك يشبه الرهان على صمود عمود ملح عند شاطئ البحر. ولا مرّة اهتزت أنظمة الطغيان تحت وطأة العقوبات الخارجية وتأثيراتها الداخلية. هذه يمكن أن تكون مزعجة لصاحب السلطة والقرار لكنها بالنسبة الى ضحاياه ليست سوى سبب اضافي لزيادة القهر الموجود أصلاً  بسببه… ومن دون نتيجة.

تلك المنظومات المستهدفة بالعقوبات هي في ذاتها عقاب مستدام لرعاياها ومواطنيها، وهي في أساسها ومتفرعاتها أول أسباب البلاء، والجذر المؤسس للأزمات التي تضرب بلادها وتحولها الى دول مارقة وفاشلة وعدوانية، وباحثة دائماً عن عدو خارجي لتعلّق عليه غسيلها الوسخ وتحمّله أوزار فشلها وطغيانها وتسلّطها واستبدادها المقيت. وهي من حيث المبدأ طغت واستبدّت وتسلّطت بطرق عنفية ودموية وخارجة عن منظومة القيم التي تُعتمد كقياس لاطلاق العقوبات من قبل الدول المتقدمة الموصوفة اختصاراً بالمجتمع الدولي، ومنظمات الأمم المتحدة وجماعات حقوق الانسان على تعددها.

ما أفرزته التجارب الطويلة في هذا المجال يدلُّ على حلقة جهنمية مقفلة: لا الأنظمة المارقة عدّلت أداءها أو خففت غلواءها ومروقها ولا ضحاياها الداخليين والخارجيين وصلوا الى حقوقهم، أو تمكنوا من تحسين أوضاعهم بكل مراتبها وعناوينها، بل العكس تماماً، إزدادت وطأة البلاء وانتعشت، والى الاستبداد والقمع والتنكيل والتوحش النظامي الداخلي، أضيفت بلايا العوز والفاقة وانحدار مستويات العيش بفعل العقوبات الخارجية، أي تماماً مثل الذي يريد تحرير طائرة مخطوفة، فيقتل الركاب ويحرق الطائرة… ويبقي الخاطف سالماً!.

تدمرت سوريا تماماً وبقي بشار “المُعاقَب” حيث هو. وعانى شعب العراق العزيز والكريم الأمرّين وتبخّرت مقوماته وبقي صدام حسين جاثماً فوقه طوال سنوات عدّة على الرغم من عقوبات لا مثيل لها. وكذا الحال مع معمر القذافي وشعب ليبيا، ومع كيم جونغ اون في كورياه ولا يزال، ومع نظام الولي في ايران ولا يزال، ومع بوتين روسيا ولا يزال.

وكل تلك الأمثلة متشابهة في السلوك السلطوي وتتبادل خبراتها ومواردها لإحكام تمكنها وسيطرتها، وتزيد وتيرة تآلفها وتعاونها كلما تعرض أحد اقانيمها الى هزّة عقابية أو الى تهديد داخلي أو خارجي. والتشابه بينها يطال المبدأ ومتفرعاته: كلها جاءت الى السلطة من خارج منطق صندوق الاقتراع ومن خارج آليات التطور السياسي الطبيعي القائم في دول الحداثة والديموقراطية، بل كلها تتشابه في احتقار تلك الآليات وكل إفرازاتها، مثلما تتشابه في احتقار معطى الحرية وحقوق الانسان في مقابل تقديس العنف واعتبار القوة العارية والصلفة طريقاً وحيداً وأكيداً للسطو على السلطة والمشاع العام وتطويبهما باسمها الى الابد.

وهذا يقود الى استنتاج كئيب: لم يسقط صدام ولا القذافي بالعقوبات وانما بالقوة. ولن يسقط بشار الاسد بالعقوبات بل برفع الحماية الاسرائيلية (الروسية) عنه. ولن تعدّل طهران أجندتها الخارجية أو الداخلية الا بالفرض. ولن يعيد الطفل المعجزة في بيونغ يانغ حساباته وأساليبه وأداءه على البارد. ولن يلجم طموحات القيصر الروسي الصاعد والخطير الا ثقل مواز ومن الصنف ذاته المفضّل لديه. تلك منظومات وشخصيات لا تفهم سوى لغة القوة ولا “تحترم” الّا الأقوى منها، ولا تعيد النظر بسلوكها الاّ غصباً وقسراً.

في أطنان الكلام والمناشدات والعقوبات التي جبهت بوتين فور شروعه بالعدوان على أوكرانيا، مرّت جملة يتيمة على لسان الرئيس الاميركي جو بايدن قد يكون لها مفعول أكبر بكثير من كل رد فعل آخر: قال حرفيا ان أي تدخل روسي في أي دولة بعد أوكرانيا سيدفع واشنطن الى التدخل المباشر أيضاً… أي أنه يرمي قفاز التحدي في وجه المعتدي ويخاطبه باللغة الوحيدة التي يفهمها، وهذه حساباتها عند القيصر الروسي مختلفة عن حساباته التي اعتمدها في مسيرته من الشيشان الى أوكرانيا مروراً بجورجيا والقرم.

وافترض (والله أعلم) أن بايدن يعرف الخطوة التالية في برنامج بوتين الاحيائي والاستراتيجية المتبعة من قبله لاعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في أوروبا… ويقول له ان الرهان على تفكك المجتمع الدولي أو مدنيته، أو افتراض ضعفه وإيثاره التنمية على العسكرة، والعولمة على الاسبارطية هو رهان صار بعد أوكرانيا في غير محله وسيفشل.

…وكأن بايدن يقرّ من دون أن يقول، بأن لغة العقوبات والادانات لا تنفع مع هذا النوع من الطغاة، وهذا ما أثبتته الأيام.

شارك المقال