بين نارين

علي نون
علي نون

إعتاد اللبنانيون على تلقف خطوات دول كبرى وصغرى في حقهم وتجاههم… وكانت لبعضها مبررات وحيثيات لا شك فيها ولا جدال، بل كانت مفهومة إلى حد بعيد. باعتبار أنه لا توجد دولة واحدة في العالم تحترم نفسها وقرارها وسيادتها، وتسعى إلى تأمين مصالحها وحفظ حقوقها، تقبل أن يتم استهدافها أو التآمر عليها من أي طرف كان. فكيف الحال إذا كان ذلك الطرف لبناني الهوية، إيراني الهوى والانتماء ويعمل وفق أجندة صاحب الشأن في طهران وتبعاً لمصالحه واستراتيجيته في المنطقة والعالم بالإجمال!؟

رد الفعل الخارجي من ذلك النوع لا يوضع في خانة الأخطاء التي اقترفها الأميركيون (مثلاً) في مراحل كثيرة من أزمة لبنان وعلى مدى أكثر من أربعة عقود… وقد تكون سياسة سيئ الصيت والذكر باراك أوباما الأفدح بهذا المعنى على لبنان والمحيط العربي الأشمل، وتحديداً عندما ارتضى أن يذعن لشروط إيران خلال مفاوضات الاتفاق النووي، وفصل بين التزامها خطوات مرحلية في سعيها إلى ذلك المشروع وبين سياستها الخارجية الباحثة عن منصات نفوذ واقتدار والتي أدت إلى ما أدت اليه: تخريب وتكسير كيانات ومؤسسات وأطر نظامية دستورية واجتماعية وديموغرافية في دول عدة، تمتد من اليمن إلى سوريا إلى لبنان، من دون أن يؤدي ذلك البلاء في جملته إلى أي “إنجازات “يُعتدّ بها لإيران وأهلها… بل العكس هو الذي حصل ويحصل، ولا يزال الايرانيون يدفعون أثمان جموح غير سوي إلى لعب أدوار أكبر من واقع الحال، وإلى أهداف تلامس الأوهام!

أخطاء الاميركيين تجاه الموضوع اللبناني، كانت ولا تزال محكومة بالمبدأ الأساسي الذي يحرك سياستهم إزاء المنطقة بجملتها، وهو إعطاء أولوية لا تُجادل لما تريده إسرائيل وترتئيه وتقرره… وبعض تلك الأخطاء كان ذاتي الدفع انطلاقًا من حسابات خاصةً أو سريعة أو مبنية على معطيات ناقصة في أحسن الافتراضات. ولذا ردد مخضرمون كثر رأياً مفاده أن الديبلوماسية الأميركية الناشطة غداة الحرب العالمية الثانية، إعتمدت في أجزاء لا بأس بها من توجهاتها وقراراتها في الشرق الأوسط أكثر من سواه، على المخزون البريطاني المتراكم على مدى تاريخ الأمبراطورية التي ترامت من طرف الأرض إلى طرفها، وأن ذلك (الإعتماد) جنّب صناع السياسات في واشنطن الكثير من الأخطاء والسقطات .

وذلك يعني استطراداً، أنه لم تكن لواشنطن سياسة لبنانية في مرحلة ما، بل ترجمة أميركية لسياسة إسرائيلية. وأن هذا المعطى كان كافيًا لإدخال لبنان في مرحلة الترميد والتدمير، وجعله مطحنة تنطحن فيها قضية فلسطين وأهلها، مثلما يُطحن فيها دور لبنان ومثاله الأثير الذي افترضه البعض ممكنًا للتشبه به وأخذه كمسودة حل لتلك القضية.

الفظيع في هذه السيرة، هو أن إدارة أوباما راحت خطوة أبعد مدى في الجغرافيا السياسية وفي الأداء، عندما جعلت إهتماماتها البينية مع إيران جزءاً من سياساتها العامة إزاء المنطقة العربية وشعوبها، وإن كان بدرجة تأثير أقل من تلك الخاصة بإسرائيل! ولبنان بطبيعة الحال، كانت له حصة من ذلك عندما وافقت تلك الإدارة على جعل منصب رئاسة الجمهورية إحدى جوائز الترضية المقدمة على هامش الإتفاق النووي.

وتلك أخطاء، بل خطايا أميركية مقصودة، يدفع اللبنانيون أثمانها الغالية اليوم باللحم الحي، بعيشهم وعملتهم الوطنية واستقرارهم وأمنهم ومؤسساتهم ودولتهم برمتها… وهم الذين يعرفون حكماً أن إدارة جو بايدن ميّالة إلى الإسراع في العودة إلى الاتفاق النووي مع “تحسين شروط” تلك العودة بما يسمح بتخفيف غلواء الجموح الخارجي التخريبي الإيراني! ومن ضمن تلك الشروط تبدو “المسألة اللبنانية” معلّقة على حبال حكي الليل والنهار في فيينا، وأسيرة الحسابات الايرانية أولاً، ثم مخاطر التراخي الأميركي ثانياً ومجدداً .

وأفترض (والله أعلم) أن الفرنسيين هم أكثر العارفين بتفاصيل وعموميات هذه “المسألة” وأكثر الملمين بتطوراتها وأشخاصها المحليين وأجنداتهم ومناوراتهم، مثلما أنهم الأكثر تماساً مع جهود تشكيل الحكومة وتمكين رئيسها من المشي بين حبات المطر وتفادي ألغام التعطيل الإيراني والترجمة المحلية له والاستثمار فيه من قبل الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل.

ولذا، كانت مستغربة، ولا تزال، التسريبات الخاصة بلائحة العقوبات الفرنسية (المنتظرة!؟) وعدم وضوح الموقف الرسمي في شأنها، وكأن باريس تضع الضحية والمرتكب في سلة واحدة، أو هكذا يوحي المناخ القائم الآن! ثم كانت مستغربة أكثر، الإشارة (ولو من باب المماحكة) إلى أن جدول لقاءات وزير الخارجية الفرنسي لو دريان في بيروت ستقتصر على رئيسي الجمهورية ومجلس النواب. وهو الامر الذي لا يتوافق مع واقع الحال وتوزيع نسب المسؤولية عن تفشيل المبادرة الفرنسية بالعدل والقسطاس على المرتكبين والجناة. ولا يتوافق مع الرحابة الفرنسية المألوفة بالتعامل مع شؤون لبنان وشجونه، مثلما لا يتوافق مع الأعراف والتقاليد السياسية والديبلوماسية، ولا مع تركيبة الحكم اللبناني التي تعرفها فرنسا جيداً جداً… والأهم والأخطر،هو أن ذلك الأمر يتجاهل حقيقة أن هوية المعطلين يعرفها كل من عليها، وظروف التعطيل في بيروت مربوطة بظروف مفاوضات فيينا… وأن الرئيس المكلف سعد الحريري هو آخر من يمكن اتهامه بالاستثمار في مأساة لبنان ومآسي اللبنانيين… وآخر فرصة ممكنة لإنجاح محاولات إنعاش المبادرة الفرنسية نفسها وبالتالي وقف الانحدار المريع إلى جهنم الموعودة من ميشال عون!

…ولا أظن في كل حال، أن باريس كانت في وارد ارتكاب كل تلك “الهفوات”!

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً