المقاطعة لا تحرج إيران ولا تضر الخليج!

محمد الساعد (كاتب سعودي)

بعد دعوة تيارات لبنانية ومنها تيار “المستقبل” الى مقاطعة الانتخابات النيابية المقبلة في لبنان، تنوعت ردود الأفعال في مواقع التواصل الاجتماعي، منها المؤيدة للعزوف، وعند بعض المحللين بين رأيين:

١- الرأي الأول التزم بمبررات العزوف: منها وقوع لبنان تحت الهيمنة الإيرانية ومساواة اللبنانيين بين تيار “المستقبل” وبين بقية أركان السلطة، وعدم التوفيق في جعل حياة اللبنانيين أفضل. وهو يبقى رأي يمثل أصحابه حتى لو تم الاختلاف معه في حيثياته أو في نتيجته.

٢ – الرأي الثاني، رأي طريف لا يخلو من سذاجة سياسية، وهو موضوع النقاش الحالي، يرى أن المقاطعة تحرج إيران في لبنان أو “تعاقب” دول الخليج على انسحابها منه.

بالعودة إلى التاريخ، لم تنجح أي تجربة مقاطعة في العالم العربي وعلى رأسها لبنان، فهناك مثلاً مقاطعة المسيحيين للانتخابات بعد اتفاق الطائف، وثمة قصة مشهورة بين رأس الكنيسة المارونية الراحل (الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير) وبين السفير الأميركي في حينه، إذ قال البطريرك الماروني للسفير بأن المسيحيين استمعوا إلى النصيحة الأميركية وقاطعوا الانتخابات فكانت النتيجة وبالاً عليهم، رد السفير الأميركي: “إذن كان يجب أن لا تسمعوا النصيحة!”. ياله من رد يختصر السياسة الأميركية!!.

وهناك تجربة مقاطعة السنة للحياة السياسية بعد الاحتلال الأميركي للعراق وسقوط صدام حسين، قرار دفع ثمنه السنة العراقيون لليوم، ولم يتمكنوا من العودة إلى الحياة السياسية إلى تاريخه.

الشاهد في القصتين أن الإيرانيين لم تحرجهم مقاطعة المسيحيين في لبنان، ولم تحرجهم مقاطعة السنة في العراق، ومن لم يأبه بمقاطعة الأمس لن يأبه بمقاطعة اليوم.

على صعيد آخر، هناك رأيان في دول الخليج، يقول الأول وهو رأي عاطفي رومانسي تضاءل كثيراً: إن قيمة لبنان تكمن في أنه جزء من تقليص نفوذ إيران في الفضاء العربي والعالم الإسلامي، وأن ضرب “حزب الله” فيه ضربة لايران، فضلاً عن أن التواجد في لبنان يؤمن نافذة إستراتيجية على سوريا وعلى شرق المتوسط وعلى إسرائيل، ولدول الخليج امتداد طبيعي في لبنان عبر أهل السنة بالذات، وهذا الرأي – للأمانة – ضعيف التأثير والحضور.

بينما يقول الرأي الثاني وهو الأكثر واقعية، بأن لا قيمة إستراتيجية للبنان في المصالح الخليجية الحالية والمستقبلية، وأنه تم انفاق عشرات المليارات عليه في العقود الماضية، ومع ذلك دائماً تتهم دول الخليج بالتقصير وتقابل بالإنكار ومن بعض الحلفاء قبل الخصوم، والأولى أن يترك البلد بيد أبنائه اللبنانيين، خصوصاً وأن “حزب الله” مدلل من الطبقة الحاكمة وبعض الطبقات السياسية والنخب، إلا إذا بزغت بادرة أمل يتبناها اللبنانيون لاعادة تموضع لبنان في الحضن العربي، ربما تدفع الى اعادة النظر.

والحقيقة، أن الخليج أخذ مسافة عن لبنان بعد انتخابات 2018 بالذات حين نالت ميليشيا “حزب الله” الإرهابية وحلفاؤها أغلبية مقاعد البرلمان وتصرفوا بفجاجة ووقاحة وخسة ضد دول الخليج، علماً بأن دولاً خليجية كثيرة حذرت حلفاءها في لبنان من مغبة القانون الانتخابي الجديد الذي بدا وكأنه مصمم لخدمة الميليشيات، ومربط الفرس هنا أن دول الخليج حذرت من هذا القانون ولم يسمعها أحد، وحين جاءت النتائج لمصلحة إيران وأتباعها كان لا بد من الابتعاد، وتعزز هذا الاتجاه بالمماحكات الدائمة وغير المسؤولة بين من يسمّون بالسياديين أنفسهم، ولم تتضرر دول الخليج من هذا الابتعاد قدر شعرة، من تضرر هم اللبنانيون، وبالتالي فنظرية مقاطعة الانتخابات لمعاقبة الخليج ساقطة، بل إن مقاطعة الجمهور السيادي للانتخابات كمرحلة اولى، ثم فوز الميليشيا المتأيرنة بالأغلبية كمرحلة ثانية، يعزز الرأي الخليجي بالانسحاب النهائي من لبنان، وكأن المقاطعين – والمصوّتين لايران وحلفائها – ينحرون لبنان ثم ينتحرون! فكل نفس بما كسبت رهينة.

إن هذه الانتخابات أكثر من مفصلية، إذ آن الأوان أن يحدد اللبنانيون مسارهم طوعاً: إما الاستسلام للميليشيات الإيرانية، وإما إعلان العودة إلى الحاضنة العربية بعد هاوية التسوية الرئاسية وانتخابات 2018. إما تمكين الدستور واستعادة الدولة وإما المؤتمر التأسيسي الذي لا يعلم مسبباته وتداعياته إلا الله نظراً الى ارتدادات الحرب الأوكرانية في العالم. إما الودائع وإما السلاح غير الشرعي. إما الدولة وإما الفوضى. إما لبنان وإما لا لبنان. وحتى الكلام الروتيني في مثل هذا الحدث يجعل المشاركة مهمة، من إعادة إنتاج السلطة السياسية إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وحتى لو تجددت خسارة القوى السيادية سيكون هناك فرق – في عيون العالم – بين الخسارة الكبيرة وبين الخسارة البسيطة.

وقد يقول قائل إن القوى السيادية حازت الأغلبية من قبل، والرد على هؤلاء، بأن وضع لبنان بعد انتخابات 2005 و2009 أفضل بكثير من وضع لبنان بعد التسوية الرئاسية وانتخابات 2018، فاي اللبنانيين نختار؟. والترويج بأن ثمة تسوية قادمة على حساب لبنان توجب المقاطعة رداً عليها هو عين السذاجة، فالمتغيرات السياسية متسارعة ومتوالية، وارتدادات الحرب الأوكرانية توحي بانسدادات حادة، والأهم من كل ذلك، على افتراض صحة الترويج، أنه من الممكن بالمشاركة وبالتصويت الصحيح تخفيف الخسائر.

سيتعامل المجتمع الدولي مع السلطة الجديدة (برلمان، حكومة ورئاسة جمهورية) على أنه لبنان انطلاقاً من الانتخابات النيابية، ونضرب المثل بسابقة في اتفاق الطائف، إذ اجتمع عام 1989 النواب الذين تم انتخابهم في آخر انتخابات برلمانية 1972، ولم يقل أحد أن موازين القوى السياسية في الشارعين المسيحي والشيعي – مثلاً – مختلفة عن الانتماءات السياسية للنواب.

إن هذا الرأي ليس رأياً عربياً يتيماً، فهناك إصرار من الدول المانحة في مؤتمر “سيدر” والدول الصديقة للبنان – وعلى رأسها دول الاتحاد الأوروبي – والمؤسسات الدولية كافة على إجراء الانتخابات البرلمانية في موعدها، ألم يتساءل أحد عن سبب هذا الاصرار؟!

اللهم بلغت، اللهم فاشهد.

شارك المقال