في تتمة الاغتيال

علي نون
علي نون

منذ ٧ أيار ٢٠٠٨ إلى اليوم ولبنان يدفع أثمان الهجمة المرتدة على نظامه الدستوري الذي وُضعت أسسه في الطائف… وعلى مسيرة خروجه المتدرج والمتدحرج من الحروب التي ابتُلي بها منذ العام ١٩٧٥… وعلى تثبيت ركائزه “الأولى” وتدعيمها، أي دوره الطبيعي والمكتسب، أكان ذلك من خلال ما فرضته (ولا تزال) شروط التعدد والتنوع المذهبي والطائفي وارتباط هذا بالحرية، التي كان ينعم بها سياسيًّا وإعلاميًّا وفكريًّا وإبداعيًّا، أو كان ذلك من خلال المهارات الخدماتية التي راكمها أهله على جغرافية مؤهلة وفي معظم القطاعات التي شكلت في جملتها خميرة اقتصاده وماليته .

ويتبين اليوم، بعد ثلاثة عشر عامًا، أن ذلك السابع من أيار كان (ربما) الحدث الأبرز المتمم لجريمة ١٤ شباط ٢٠٠٥… بحيث إن زلزال اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريرى لم يكن كافيًا على ما يبدو لوقف عودة اللبنانيين إلى اكتشاف بلدهم خارج سياقات الحروب والدم والدمار… وخارج أدلجة الساحة المفتوحة البديلة عن معظم الساحات المغلقة في المنطقة وخصوصًا بعد حرب العام ١٩٧٣ الأخيرة في النزاع العربي الإسرائيلي.

ترنّح اللبنانيون منذ تكليف نظام آل الأسد برعاية تطبيق اتفاق الطائف بشقه الميداني أولاً، أي بإنهاء الحرب وتعطيل أدواتها (الميليشيوية) على وقع خيارين آتيين من تشبيه لا يخلو من مرض: هونغ كونغ أو هانوي! وكان المقصود من وراء رمي ذلك الاختيار، تثبيت الإيحاءات القائلة بأن دور لبنان الخدماتي والطبيعي انتهى! وأن هونغ كونغ ممكنة فيه مثلما هي ممكنة في أرضها ومكانها، أي منطقة مال وأعمال وحياة وحرية، لكن في ظل نظام حزبي استبدادي موجّه ومغلق مثل نظام آل الأسد الشبيه في نواحي الحكم وشكله بالمثال الصيني! أي أن لبنان بهذا المعنى، هو وظيفة أكثر من كونه بلدًا سيدًا ومستقلًّا! بل أبعد من ذلك: كان المطلوب سوريًّا بالأمس وإيرانيًّا اليوم أن تكون هذه المساحة المستباحة “منعشة” إلى حدود خدمة الوصي عليها وليس إلى حدود العودة بالزمن إلى الوراء الجميل! أي أن يبقى مريضًا أوغير متعافٍ، وإقامته الدائمة هي في المستشفى: عندما ترتجّ حالته وتصعب، مثلما هو حاصل اليوم، يتم إدخاله إلى غرفة العناية المركزة لإعادة إنعاشه، وعندما يحصل ذلك يُعاد إلى غرفته! أي ليس مسموحًا خروج هذا المريض من ذلك المستشفى !

تحت هذا السقف كانت هانوي الخيار الثاني، حاضرة في الأدلجة الممانعة لجهة اعتبار لبنان رأس الحربة في مواجهة لم يعد أصحاب تلك الحربة يريدون حملها أصلًا وفصلًا… أي أن نظام آل الأسد كان مرتاحًا على وضعه اللبناني حيث النفوذ الطاغي والمكتسبات الوفيرة بالكبيرة والصغيرة، بالسياسة والمال والخدمات والتجارة الأمنية والسياسية، في ظل استراتيجيته المستدامة الباحثة عن تسوية مع إسرائيل والولايات المتحدة من ورائها. وهو تصرف حتى لحظة اندحاره عن لبنان وفق تلك الاستراتيجية وانطلاقًا من أن حرب العام ١٩٧٣ كانت آخر الحروب النظامية!

وبعده، تعمل إيران عبر أدواتها ومقدمي الخدمات لها، وفق استراتيجية مشابهة، حيث النفوذ في صنع القرارات الكبرى، والمكاسب المتأتية من ذلك توضع في جملتها تحت خانة تدعيم أوراق صاحب السلطة في طهران، في اشتباكاته الإقليمية والدولية السياسية والديبلوماسية، بهدف إكمال المشروع الاستعادي الأمبراطوري والوصول إلى لعب أدوار الدول الكبرى والعظمى! تحت ذلك السقف وليس فوقه تنخرط إيران في اشتباكات صغيرة وكثيرة، لكن من دون الوقوع في فخ حرب واحدة كبيرة! ولبنان بالنسبة إليها ليس سوى درّة تاج ذلك المشروع. والمنفذ الرابط بين بحري قزوين والأبيض المتوسط. وصندوق البريد الماسّي الذي يمكن عبره توجيه أغلى الرسائل إلى إسرائيل والولايات المتحدة والغرب عمومًا… وطبعًا في سياق المساومات والتسويات، وليس المواجهات القاتلة و”الأخيرة”!

…السابع من أيار ٢٠٠٨ كان مفصليًّا بهذا المعنى الكبير والكئيب، باعتبار أنه ردّ الموجة السيادية والاستقلالية، التي تدفقت غداة اغتيال الرئيس الحريري، وأعاد ضبط المشهد الذي تفلت خارج الاستراتيجية التي وُضع لبنان في صلبها… وأمكن بعد ذلك ونتيجة له ضبط الإيقاع في الحكومات المتعاقبة، وفي آلية صنع القرار، وفي المؤسسات الأمنية والعسكرية وفي السياسة الخارجية، وصولًا بطبيعة الحال وأحكام المنطق السليم، إلى الحالة الراهنة حيث الخراب يليق بنا أكثر من البصرة في عزّ خرابها !

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً