سياسيو لبنان… هرِمنا ولن نستكين

عاصم عبد الرحمن

لا شك أن قرار الزعيم اللبناني الشاب سعد الحريري (52 عاماً) تعليق العمل السياسي شكَّل صدمة من نوع آخر على اعتبار أن تجربته لا تزال في ريعانها، فقد اعتاد اللبنانيون مجتمعاً سياسياً هرِماً، وهو ما يطرح إشكالية أساسية حول نرجسية سياسيي لبنان وتمسكهم بالسلطة حتى النفس الأخير وعدم إفساحهم في المجال أمام تجديد الطبقة الحاكمة والتنظيمات الحزبية، فأي إنجازات سياسية منتظرة من حكام أكل الدهر الإقطاعي عليهم وشرب؟

تتراوح أعمار السياسيين في لبنان بين 40 و90 عاماً بين رؤساء ونواب وزعماء أحزاب ومرشحين للرئاسة والنيابة إلا أن أكبرهم سناً هم الأبرز: ميشال عون (87)، نبيه بري (84)، فؤاد السنيورة (78)، وليد جنبلاط (73)، سمير جعجع (70)، جميل السيد (72)، فؤاد مخزومي (70)، محمد رعد (67)، نجيب ميقاتي (67) وغيرهم الكثير من المرشحين للرئاسة والنيابة والوزارة لأربع سنوات قادمة، وكأن الزمن توقف عند انطلاق مسيرتهم القيادية متناسين أن مَن حدد سن التقاعد بـ 64 عاماً كان يدرك أنها السن الأقصى للعمل الجسدي والعطاء الذهني، فكيف بعالم السياسة الذي يتطلب جهوداً جبارة لإدارة الدولة والمؤسسات والأحزاب خاصة العمل التشريعي والتنفيذي ومواكبة القضايا والملفات اليومية؟

من الواضح جداً أن النرجسية تطغى على نفوس السياسيين المتربعين على عرش السلطة والأحزاب ولا ينفكون متمسكين بالسيادة المطلقة التي يتمتعون بها على رأس جمهورهم الذي يمدد ويجدد ويشرعن بقاءهم لا بل يقاتل من أجل تحنيطهم في متاحف الحكم تحقيقاً للعدالة التمثيلية وصوناً للمصير وحمايةً للطائفة.

إذاً هؤلاء القادة يمارسون “القيادة النرجسية التي تعتبر أحد أساليب القيادة التي لا يهتم فيها القائد سوى بنفسه، فتتمركز الأولوية عند هذه الشخصيات حول أنفسها ويكون ذلك على حساب شعوبها وجماعتها. ويسلك القائد النرجسي خصائص نرجسية تتمثل في: الغطرسة والهيمنة، العدائية والانشغال بالذات والحاجة للحصول على النفوذ والإعجاب”.

ومما لا شك فيه أن جميع القادة اللبنانيين من دون استثناء يتمتعون بهذه الصفات التي تجعلهم يقفون سداً منيعاً في وجه التجديد البشري والقيادي والفكري لدى الجسم الحزبي على وجه الخصوص؛ لا بل يعمدون إلى إبعاد الكوادر الأكثر تميزاً على الصعيد الفكري عن مراكز القرار أو الواجهة الحزبية – على الرغم من استغلالهم لقدراتهم وامتصاصهم لكفاءتهم في سبيل الحفاظ على موقعهم الحزبي أو الرسمي – خشية تفوقهم الكاريزمي واختطافهم أضواء الإعجاب الشعبي ما يهدد الوجود المعنوي لزعامتهم القابعة خلف قضبان الزمن على رأس المجموعة الحزبية والشعبية والرسمية، وهذه الحال إنما تدفعهم الى تولية المناصب القيادية لأكثر الشخصيات شعبويةً والتي تسعى جاهدةً الى الحفاظ على منصبها من خلال تعظيم الزعيم وتمجيده ليل نهار، ليمتد حال الإهتراء إلى كامل الجسم التنظيمي فينعكس أداؤه تفتيتاً بنيوياً في الصفوف الجماهيرية والتنظيمية وفي المناصب الرسمية التي يتولونها في السلطة.

وعليه، فإن الحال هذه تختصر مسار الانهيار الذي يتآكل البلاد والعباد في كثير من جوانبها، ذلك أن ذهنية الحكم القائمة في معظمها تأتي نتيجة الممارسة التقليدية للسلطة والحكم بفعل الطبقة السياسية الهرمة والتي لا تزال تعيش في زمن سياسي وإداري غابر، والدليل شاخص في الكثير من الأنظمة والقوانين أهمها قانون الأحزاب والجمعيات الذي خلفته الدولة العثمانية (علم وخبر) وهنا بيت القصيد، إذ يبدو واضحاً أن أي قانون عصري للأحزاب يواكب التطورات الهائلة التي تطبع العمل الحزبي، فإن هؤلاء القادة يخشون التغيير الذي قد يطيح بهم من على كراسيهم المهترئة.

إن أكثر ما يثير العجب العجاب لدى الرأي العام هو محاضرة هؤلاء القادة بمبادئ الحريات والديموقراطية والتغيير وتداول السلطة وتطويب أنفسهم زهَّاداً في الحكم موجهين سهام الانتقاد إلى زملائهم في الأحزاب الأخرى الذين يأتون بعائلاتهم من ابن وزوجة وصهر إلى المراكز القيادية وكأنهم غير مدركين أنهم وزوجاتهم وأبناؤهم وأشقاؤهم وأزواج بناتهم يتقاسمون المواقع الحزبية والمناصب الرسمية التي يتحاصصونها أثناء مشاركتهم في السلطة، فتراهم يطبقون مبدأ التوريث السياسي تحت جنح الانفصام الزعاماتي، لتبقى قيادات حزبية وفكرية كفوءة قائمة عند قارعة تأمين استمرارية الحزب عبر الضخ الفكري والإنتاجية السياسية من خلف الكواليس القيادية شاهدة على قطاف العائلة لحصاد النجاح الحزبي الكبير الذي سيرثه من بعدهم أبناؤهم الصالحون حتماً.

على وقع أرجحية عودة معظم القيادات السياسية في الانتخابات المقبلة، تثار الشكوك حول إمكانية إحداث أي تغيير ينشده اللبنانيون، إذ إن العمل الحزبي والسياسي والتشريعي والتنفيذي يتطلب ليس قوة فكرية فحسب وإنما شباب يقاوم الجهود الواجب بذلها في تحقيق ما سبق، فأي تجديد يؤمل في طبقة سياسية يموت زعماؤها على كراسيهم في الـ 90 من عمرهم؟

شارك المقال