فرنسا تخلّت عن تسريع الحكومة ولبنان نحو فوضى أمنية

وليد شقير
وليد شقير

أسدل وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان الستار على ثمانية أشهر من انخراط باريس اليومي، بل أحياناً على مدار الساعة، في تفاصيل الأزمة اللبنانية ولا سيما الشق الحكومي منها، بعدما قال كلمته ومشى تاركاً وراءه أسئلة وغموضاً أكثر من الأجوبة.

ومع أن الانطباع العام الذي تركه تحميل لودريان القادة السياسيين مسؤولية تعطيل تأليف الحكومة الجديدة وإعلانه بدء تطبيق العقوبات بمنع دخول شخصيات متهمة بعرقلة ولادتها وبالفساد، جاء بعد شهور من الصبر ومحاولة إنقاذ المبادرة، فإن النتيجة القائلة إنه أعلن نهاية المبادرة الفرنسية، لم يكن وليد الزيارة. فقناعة جزء من القادة السياسيين بأن المبادرة انتهت كانت نشأت منذ أن اعتذر عن عدم التأليف السفير مصطفى أديب في أيلول الماضي على رغم أن ترشيحه جاء فيما كانت المبادرة بأوج زخمها وتحظى بتأييد السواد الأعظم من اللبنانيين وقواهم السياسية. إلا أن ترشح زعيم تيار “المستقبل” سعد الحريري وتكليفه برئاسة الحكومة في تشرين الأول الماضي أنعش آمال البعض بإمكان إحياء هذه المبادرة. يومها قيل إن ترشح الحريري هو ترشيح لمبادرة ماكرون، ولإنقاذها، لكن المحاولة فشلت. وهذا يبقي اعتذار الحريري وارداً، موضوعياً، إذا كان ربط رئاسته الحكومة بمبادرة ماكرون، على رغم أن التلويح بالاعتذار لقي رفضاً من محيطه السياسي ومن قاعدته الشعبية، أدى إلى تراجعه عن الفكرة. لكنه لن يلغيها.

شعور باريس بالمرارة سبق زيارة لودريان، وبدأ منذ الخريف الماضي حين قال ماكرون إن القادة السياسيين خانوا تعهداتهم له، بعدما وضع ثقله في مغامرة إنقاذ بلد للرأي العام الفرنسي معرفة وثيقة به سياسياً واجتماعيا وتاريخياً، وتعاطفاً استثنائياً، لا سيما بعد الانفجار الكارثي. لا يلغي هذا أنه ثبت أن حسابات الإدارة الفرنسية كانت متعجلة ومتسرعة في مقاربة أزمة متشابكة، على رغم أن جوهر المشكلة، قبل محاكمة الإداء الفرنسي، يكمن في استعصاء المسرح السياسي اللبناني على الحلول المنطقية والعقلانية، وفي تداخل مصالح الفئة الحاكمة مع عوامل التعقيدات الخارجية، بوجود جهة في الحكم تملك توقيعاً دستورياً وتعتمد سياسة عبثية حتى لو كانت نتائجها انتحارية. وكان وما زال من غير الواقعي ترداد الديبلوماسية الفرنسية بأن أصل الأزمة والتعطيل داخليين، فيما دلت الدينامية التي تدحرجت فيها وقائع تعطيل الحكومة أن الحسابات الخارجية لعبت دوراً واضحاً في الانسداد السياسي الذي يعاني منه لبنان. وإلا لما كانت فرنسا نفسها نسقت خطواتها لمعالجة العقد المتوالدة مع عواصم عديدة، من واشنطن إلى موسكو وطهران والرياض والفاتيكان وبروكسيل، فضلاً عن المحاولات التي بذلتها موسكو أيضاً…

كما أن القوى المتحكمة باللعبة وخصوصاً تحالف “حزب الله” والرئيس ميشال عون، كل على طريقته ولسببه أتقنت إغراق المبادرة الفرنسية في التفاصيل والألاعيب اللبنانية الصغيرة، رداً على إبعادها عن التحكم بالقرار السياسي عن طريق حكومة الاختصاصيين، بحجة الحاجة إلى طاقم يثق به المجتمع الدولي وجماهير انتفاضة 17 تشرين. ويفترض بالطاقم الفرنسي الذي تولى إدارة العملية السياسية الموعودة أن يتذكر أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف قال في آب الماضي: ماذا جاء الفرنسيون يفعلون في لبنان؟ فطهران تتصرف على أنها حلت مكان الأم الحنون وباتت هي القيم على السياسة اللبنانية.

مهما تكن الوقائع والاستنتاجات التي رافقت وأعقبت زيارة لودريان، بقي السؤال البديهي ماذا بعد؟ الجميع ينتظر الأجوبة التي لا يملك أي من الفرقاء أياً منها. ويبدو أن هذه الأجوبة متروكة للزمن ولتوالد الأحداث بعد الزيارة. الجواب الوحيد في الوسط السياسي أن الأزمة ذاهبة إلى مزيد من التصعيد، اقتصاديا ومعيشياً واجتماعياً وسياسياً، في وقت تبحث كل من القوى السياسية عن تأمين وسائل صمود جماعتها بتقديم المساعدات الإنسانية والغذائية لشعبها عبر هياكل مختلفة، تبدأ بالتبرعات للتجمعات السكنية، وتمر بإنشاء تعاونيات استهلاكية وبطاقات تموينية كما يفعل “حزب الله”، ولا تنتهي بجمع تبرعات عن طريق مؤسسات دينية واغترابية، لن تحول دون تصاعد النقمة الشعبية، مع تحولها إلى فوضى أمنية واجتماعية يغذيها الجوع والفقر. وعندها سيثبت أن سحب فرنسا يدها من التعاطي مع الطبقة السياسية التي سببت المآسي الحالية والمقبلة كان محقاً، طالما رُفضت مبادرتها الإنقاذية.

وبموازاة ذلك ينتظر أن تتفاعل سياسة تصعيد الضغوط الفرنسية على معرقلي الحكومة، من دون أن يكون الزائر الفرنسي تلقى أي وعد من أي من المسؤولين الذين التقاهم بالقيام بمبادرة ما للخروج من الجمود. كما أن الأوساط الفرنسية تكتفي بالقول إنها ستنتظر ردود الفعل على اللوم الشديد اللهجة الذي وجهه إلى كل من هؤلاء حسب موقعه. إلا أن إعلان الوزير الفرنسي دعمه لمجموعات المعارضة التغييرية التي التقى برموز منها في قصر الصنوبر يعني تخلي باريس عن طموح إحداث نقلة عبر القوى السياسية التقليدية، لمصلحة المراهنة على أن يحصل التغيير عبر الانتخابات النيابية المقبلة. ومع أن الوسط السياسي التقليدي يعتقد أن الجانب الفرنسي يراهن على قوى تمثيلها السياسي محدود قياساً إلى الزعامات التقليدية التي قاطعها لودريان، فإن مراهنتها على المجموعات والأحزاب التغييرية تشي بأنها تسلم بأن لا حكومة في المدى المنظور ما يرجح امتداد الفراغ حتى موعد الانتخابات في أيار 2022 ، أو كما سبق أن قيل، حتى نهاية العهد. فهل أن الضغوط المتصاعدة التي وعد بها لودريان ستتحول، بالتعاون مع المجتمع الدولي الذي وعدت بتجييشه، إلى الحؤول دون تأجيل هذه الانتخابات،  بدلاً من الدفع لتأليف حكومة؟

لكن الأوساط السياسية المختلفة سجلت جملة ملاحظات حيال وقائع زيارة لودريان في العلاقة مع المسرح السياسي اللبناني، على رغم تفهم قيادات عدة ليأس باريس بعد صبر طويل، منها:

أن مساواته بين القوى السياسية المختلفة بتهمة التعطيل حملته على استبعاد جهات كثيرة عملت على تسهيل قيام الحكومة، من لقاءاته وفي طليعة هؤلاء البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي.

على رغم انزعاج باريس من تفاصيل متعلقة بموقف الرئيس المكلف سعد الحريري في بعض مداولات تأليف الحكومة، ومنها رفضه لقاء رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل فإن بعض أوساط تيار “المستقبل” يأخذ على لودريان مساواته الحريري بالفريق الرئاسي، وبأنه حين تحفظ على فكرة دعوته مع باسيل إلى باريس بحجة أن الحكومة تتوقف على اجتماعهما، حجته أن لا ضمانة بأن يعدل رئيس “التيار الحر” موقفه من تأييد حكومة وفق المواصفات الفرنسية ( أن تتألف من اختصاصيين مستقلين وغير حزبيين موثوقين من دون ثلث معطل لا صراحة ولا مواربة)، وأنه إذا كان يوافق عليها لماذا لا يعلن ذلك، فتتشكل ثم يلتقيان بعدها، فضلاً عن أن بإمكان عقد الاجتماع في بيروت. وإذا كان الجانب الفرنسي يصر عليه، فيمكن أن يكون في إطار اجتماع موسع يشمل قادة الأحزاب الذين التقوا الرئيس ماكرون في قصر الصنوبر في 1 أيلول.

وفي كل الأحوال جاء لقاء لودريان مع الحريري في قصر الصنوبر، “بارداً” على رغم التكتم الشديد الذي أحاط بمضمونه من الجانبين. وهذا يعني أن العلاقة التي بناها الرئيس الراحل رفيق الحريري مع الرئيس الراحل جاك شيراك، وجعلت فرنسا صاحبة دور خاص في لبنان وبعض قضايا الإقليم، أصيبت بعطب يسقط الدفء الذي صبغها لسنوات.

أنه على رغم استمرار فرنسا في تقديم الدعم للمجتمع المدني، فإن التطورات الإقليمية ستشغل اللبنانيين في خلافاتهم على الخيارات والرهانات الإقليمية، وسط التطورات المرتقبة سواء على صعيد العلاقات الأميركية الإيرانية جراء مفاوضات فيينا، أو نتيجة اللقاءات الإيرانية السعدية، أو السعودية السورية، حيث سيسعى محور إيران سوريا وحلفائه الإفادة منها من أجل ترسيخ نفوذه، فيما سيعمل خصوم هذا المحور لمنع الأضرار المحتملة عليه، بحيث ستتغير تحالفات وحسابات عند الفرقاء المحليين.

 أولى محطات هذه الضغوط الجديدة التي تقودها فرنسا هذه المرة اجتماع الإثنين لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي لدراسة ورقة تتناول العقوبات الأوروبية في مواجهة العرقلة  والفساد.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً