جحيم الذاكرة الجماعية بين لبنان ولبنان

حسناء بو حرفوش

كم مضى على الحرب الأهلية اللبنانية؟ الحرب التي اندلعت نيرانها قبل 13 نيسان 1975 بسنين وبقي جمرها مستعراً تحت الرماد قبل أن تقصم القشة ظهر البعير ويقتتل الأخوة بعناوين متفرعة، ثم تكر السبحة وتتشعب الأسباب وتتعدد السرديات ويستحيل الضحايا أرقاماً في عداد الموت والذاكرة المهجورة. كم مضى على الحرب الأهلية اللبنانية؟ مضى أربعون جحيماً وجحيم موعود بين لبنان يحتضر ولبنان يولد مشوهاً.

ماذا يعرف جيل لبنان اليوم عن الحرب اللبنانية؟ ذلك الجيل الذي يقف أمام الشاشات “متفرعناً” وملوحاً بآثام الآخرين. فليخجل الجميع وليطأطئوا رؤوسهم تواضعاً أمام مهابة الملحمة الحزينة والخوف الكبير الذي ما زالت شباكه منصوبة حول مستقبلنا. أيها الجيل الحبيب، أنت لم تعرف من الحرب سوى ما لُقنته والحرب أكثر بكثير من بارود ملقم وقبور وأضرحة بلا شواهد. الحرب لم تنته بعد، والجحيم اللبناني اليوم خير دليل.

في سرديات الحرب اللبنانية، أقصوصات ورق لا يتفق عليها جميع المؤرخين، تتعدد رواياتها وتتبعثر لتشكل ذاكرة جماعية هي نفسها وحش كبير يسلط السلاح على الرؤوس والقلوب. منذ الصرخة الأولى في نيسان المشؤوم والتاريخ مغيّب ومنتقص. فكيف ننهل الدروس من المجازر التي لا نعترف بارتكابها؟ في جحيم الذاكرة الجماعية اللبنانية، ثؤلول كبير يمنع تدفق الدم إلى القلب اللبناني السيد الحر المستقل، ثؤلول الاعتراف بالخطيئة. ولعل هذه الأيام المباركة لجميع الطوائف اللبنانية تحثنا على كسر النفس قليلاً والاعتراف بكل العثرات التي دفع الجميع أثمانها غالياً. البداية تكمن في الاعتراف بأن ذاكرتنا الجماعية بنيت على انفصام وخصام وعلى ثغرات كثيرة تسمح للفساد بالتسلل، ويتعين إصلاحها بالاطلاع على مختلف السرديات وإيجاد أرضية مشتركة يمكن الانطلاق منها لتغذية الذاكرة الفردية وشحذ المواطنة في وجه التعصب.

إن الحرب اللبنانية الأهلية التي اغتصبت كل الأرواح وأسّست للكسل والاستزلام لم تنته باتفاق الطائف، وهو الذي يواجه ألف سلاح مسلط على الحلول وألف نافذة على الفتنة، إنها مستمرة بأبشع أشكالها، وبحضور أطياف وأطياف مجتمعة ولكن بغياب لبنان. الحرب التي يواجهها هذا الجرح النازف الكبير هي حرب هوية بالفعل، فلا يحاولن أحد إضاعة البوصلة أو الرهان على عدم إدراك الجماهير. فلنعد إلى الدستور اللبناني أولاً وإلى هوية لبنان العربية وإلى مشروع الحياد. لقد كرّس الدستور حياد لبنان الإيجابي، “المنفتح على كل الثقافات”، وأكد البند الأول منه على “منع استعمال الأراضي اللبنانية لأي عمل عسكري من قبل أي طرف غير لبناني”.

أيمكن لأي كان تخيل أن بلداً بحجم لبنان وبمعاناته قادر على الصمود في وجه العواصف الاقليمية والدولية؟ أما شهد شاهد من أهله في الماضي السحيق والتاريخ والغابر على أن هذه البقعة الجميلة والغنية بتنوعها، تحمل في جيناتها نقمة استغلال هذا التنوع، ولهذا أيضاً وجب الحياد؟

لقد شهد لبنان على رفع شعار الحياد السياسي بشكل إيجابي منذ استقلاله في العام 1943، بحيث اتفق زعماء الاستقلال وتحديداً الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح، على ميثاق وطني. وبموجب هذا الميثاق، تعاهدت الطوائف اللبنانية على “تجربة خيار العيش المشترك في دولة مدنية ديموقراطية مستقلة، وانطلقت من سلبيتين خارجيتين تنصان على تنازل الطوائف الاسلامية عن حلم الوحدة العربية وفك الارتباط مع سوريا، لقاء تنازل الطوائف المسيحية عن الانتداب الفرنسي وفك الارتباط مع فرنسا”.

وإثر أحداث العام 1958، دعا شارل حلو الذي أصبح رئيساً للجمهورية فيما بعد، في مقالين في صحيفة “لو جور” (le jour)، الى ما أسماه “الحياد القانوني الدائم” والتمثل بالنموذج النمساوي، من أجل تسريع الحل وتحديد علاقات لبنان الخارجية عبر حياد قانوني معترف به دولياً، من دون أن يغيّر ذلك الحياد شيئاً في علاقات لبنان مع الأمم المتحدة. ويقضي الحياد الذي دعا إليه بانسحاب الدولة اللبنانية من معاهدة الدفاع العربي المشترك. وبعد سقوط “حلف بغداد” ولقاء الرئيسين فؤاد شهاب وجمال عبد الناصر في العام 1959 في “خيمة على الحدود اللبنانية – السورية التي كانت تشكل جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة” (فياض، 2011)، أكد عبد الناصر يومها على احترام سيادة لبنان واستقلاله وحياده.

لبنان بعد الجحيم الفاصل لحربه الأهلية لا يزال يهوي كعملته إلى ويل أكثر اسوداداً وإلى أيام علقمها حلو أمام العجز. وكي لا نتوقف عند عقم الحرب وحسب، فلنعد شريط الذاكرة إلى الوراء ولنهمّ بزيارة لبنان ما قبل الجحيم… لبنان الذي تتحداه القوى المناهضة للمواطنة اليوم… لبنان الطوائف المتعددة والحضارات المتعاقبة واللغات المزدهرة، درة الشرقين والجسر بين عالمين. فليحتفِ أبناء لبنان بكل لبناني يشبه لبنانيي ما قبل الحرب… حملة الكتب ومصدرو الموضة والإبداع والمتقنون للفنون الجميلة والمتميزون في لغة الجسد والأداء اللغوي واللامعون في مسابقات الجمال والمستفيقون على ابتسامة فيروز ودلع الصبوحة وهيبة وديع الصافي وسواهم من العمالقة. كان لبنان يضج بالأمل وحيث يضج الأمل تزهر الحرية… حرية القرار وحرية المعتقد وحرية الاستقرار وحرية العيش، وباجتماع هذه الحريات تكتمل الهوية اللبنانية. أما اليوم، فبين جحيم نيسان 1975 ونيسان 2022، لبنان ولبنان… لبنان المطعون من الخلف ولبنان المنتحر بإرادة بعض حملة الهوية اللبنانية.

شارك المقال