المغتربون… هل يكون الاقتراع الأخير؟

أنطوني جعجع

انه الانذار…

هذا في اختصار ما أجمع عليه مراقبو العملية الانتخابية التي أجريت في دول الانتشار العربية والغربية.

الإنذار الذي لا يوفر حزباً أو مجتمعاً أو زعيماً أو محوراً سواء كان محوراً محلياً أو اقليمياً أو دولياً، والانذار الذي يدفع الجميع من دون استثناء الى اعادة حساباتهم على كل المستويات، اذا أرادوا فعلاً تلافي المزيد من الهبوط الذي يمكن أن يصل الى حدود الافلاس …

ما جرى في عالم الانتشار، أضاء على موجة شعبية انقلابية طاولت السلطة بكل أطرافها والأحزاب بكل أهوائها، والطوائف بكل أركانها، والقيادات بكل حيثياتها، ووصلت في اصاباتها من حيث تدري أو لا تدري الى المجتمع المدني نفسه بكل تكتلاته وتنظيماته.

وما جرى أيضاً كان بمثابة اطلاق نار عشوائي في كل اتجاه، بدت خلاله أحزاب السلطة والمعارضة في حالة دفاع عن النفس في مكان، والصمت في مكان آخر، مشيراً الى أن كل الشعارات التي أطلقتها تلك الأحزاب لم تزد على ناخبيها ناخباً واحداً وتحديداً أحزاب “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” و”القوات اللبنانية” وحركة “أمل”، من دون أن يعني ذلك أن التكتلات التغييرية المنقسمة والمشرذمة كانت في حال أفضل …

فتلك الصرخات التي كان تدعو الى التصويت للتغيير، أثبتت أن لا أحد في لبنان يملك مساحة اضافية خارج بوتقته وبيئته، أو يملك شهادة في حسن السلوك تمنحه أسباباً تخفيفية، وأن لا أحد يسيطر على قاعدته الشعبية في شكل مطلق، في وقت تشهد الأحزاب اما تراجعاً في قواعدها واما عجزاً عن التوسع خارج أقفاصها.

فالصوت الشيعي في أفريقيا وألمانيا تحديداً، كان في معظمه صوتاً حزبياً محضاً، لا وجود لأي جرعة جديدة فيه، وكذلك الأمر بالنسبة الى الصوت السني الذي أثبت الى حد كبير أنه صوت لا يمكن لأحد السيطرة عليه أو التحكم به في شكل مطلق سواء كان ذلك من طرف محلي أو اقليمي …

ولا يختلف اثنان من المراقبين على أن السنة في عقر دار السنة، أي السعودية، لم يتأثروا بالموقف السعودي السلبي من الحريري الابن، واختار معظمهم المقاطعة التي أوحى بها رئيس تيار “المستقبل” والمقربون منه، وقد لا ينجذبوا الى فؤاد السنيورة أو مصطفى علوش أو بهاء الحريري، على الرغم من أن قسماً منهم قد يدلي بأصواته تحت راية: لقد حان وقت الانقلاب على الجميع، وبعضه الآخر تحت راية: الحرب على المد الشيعي الذي يعززه “حزب الله” داخل مجتمعهم ومعاقلهم.

وانطلاقاً من هذا المشهد يمكن القول ان سنة الاغتراب، ليسوا في “جيبة” أحد، فلا روّعتهم ترهيبات، ولا استقطبتهم مغريات، فشكلوا حالة شعبية وسياسية تكاد لو توحدت القوى التغييرية كما يجب، أن تتحول الى قوة ثالثة يحسب لها ألف حساب.

وما ينطبق على السنة، ينطبق على الشيعة ولو بنسبة أقل، فالاقبال في ألمانيا كان اقبالاً حزبياً عشوائياً ضم حركة “أمل” علناً و”حزب الله” سراً، وفشل في استقطاب أي أصوات لا تدور في فلكهما لا سياسياً ولا حتى عاطفياً، الأمر الذي أثار موجة قلق في دوائر الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله اللذين بعثا برسائل قاسية الى مديري حملاتهم الانتخابية تحضهم على الضغط بأي وسيلة لتحفيز الجاليات الشيعية على الانتخاب وتسجيل نسبة عالية تضمن أمرين أساسيين: أن التغيير لم يضرب الثنائي في الخارج، ولن يخلط الأوراق في مناطق نفوذه سواء في الجنوب أو البقاع.

“القوات اللبنانية” لم تكن بدورها بعيدة من هذه الموجة التي لم تأخذ في الاعتبار، لا شعارات هذا الحزب ولا حملاته الموجهة ضد خط الممانعة، وتعاملت معه على أنه واحد من المنظومة السياسية التي شاركت في الانهيار أو مارست على الأقل دور شاهد الزور الذي لم يسرق ولم يمنع الآخر من السرقة، وهو أمر شكل خيبة لمديري الماكينات الانتخابية في الدول العربية وأوروبا وأميركا وصولاً الى أستراليا، حيث مال الكثير من المتعاطفين مع سمير جعجع الى مرشحين آخرين ينتمون اما الى عائلات سياسية واما الى مرشحين مستقلين واما الى مجموعات مدنية تغييرية.

الحزب “التقدمي الاشتراكي” تميز عن سواه في قدرته على شد العصب الدرزي لمصلحة وليد جنبلاط الذي نجح الى حد ما في تصوير نفسه هدفاً للالغاء السياسي من دون أن يعني ذلك أن التغييريين الدروز كانوا على الهامش في حسابات ناخبي الجبل الذين تكدسوا في أقلام عاليه والشوف، وتحديداً في دبي، في محاولة لترجيح كفة على كفة قبل اليوم الكبير في الخامس عشر من أيار.

وحده “التيار الوطني الحر”، كان أكثر المتأثرين بالموجة التغييرية العقابية، وأكثرهم إحراجاً أمام طوفان من الناخبين المسيحيين الذين هاجروا في عهد الرئيس ميشال عون، بعدما فقدوا ثقتهم بتيار كان يمثل بالنسبة اليهم حزباً “فوق الشبهات”، وحزباً لا خلاص للبنان من دونه ولا قيامة له ما لم يصل الى الحكم.

ولقد ظهر هذا المشهد في وجوه الساهرين على العملية الانتخابية في دول الانتشار، الذين تعرضوا للكثير من الاهانات والاحراجات التي تعكس خيبة مَن كانوا من المراهنين عليه، ونزعة من يريد الرهان على منشقين عنه أو بدائل منه، اصافة الى العقوبات والاتهامات التي طاولت وتطاول رئيسه جبران باسيل.

وقد يقول قائل إن القوى التغييرية نالت حصة الأسد، وهذا صحيح في الشكل، لكنه في المضمون لم يكن أكثر من موجة تكسرت على الشواطئ الكثيرة التي نشرها مرشحو المجتمع المدني على مستوى الخارطة الانتخابية اللبنانية.

ونقل عن ديبلوماسي غربي راقب حركة الناخبين في الخارج، تخوفه من أن يكون السياديون والمعارضون فقدوا فرصة جديدة كان يمكنهم بها قلب الطاولة واستعادة المبادرة في الكثير من المفاصل الوطنية المصيرية، متخوفاً أيضاً من ألا يلقى هؤلاء فرصة مماثلة وسط الترسيم الجديد للخارطة العالمية الممتدة من أوروبا الى آسيا وتحديداً الشرق الأوسط.

وفي قراءة سريعة لما جرى في الانتشار، يمكن القول إن القوة الشبابية الاغترابية تحولت الى قوة ثالثة عقابية وشرسة لا توفر أحداً ولا ترحم أحداً، وأنها ستكون في أي انتخابات مقبلة، وفي حال توحدت، الفيصل الذي يسهم في شكل كبير في تحديد الكثير من الأحجام والغالبيات والقرارات والتوجهات.

وانطلاقاً من هذا الواقع، لا بد من سؤال، هل تبقي السلطة الحاكمة، أي سلطة، على حق المنتشرين في الاقتراع نحو الداخل، أم تعمل على دفعهم نحو انتخابات قارية رمزية تسهم مع الوقت في تذويبهم في المجتمعات التي يقيمون فيها تمهيداً لقيام كيان غريب لا تعكره أي ثقافات انفتاحية أو أفكار متحررة؟

وأكثر من ذلك، هل يمكن القول اذا ذهبنا بعيداً في عالم التكهنات، إن المنتشرين لم يضعوا في الأمس المدماك الأول في حلم التغيير، بل مارسوا من حيث يدرون أو لا يدرون لعبة الاقتراع الأخير؟

شارك المقال