نهاية الامبراطورية الروسية أم بداية جديدة؟

حسناء بو حرفوش

لقد آن الوقت لصناعة السلام، ليس من موقع ضعف بل من موقع قوة، بهذه الكلمات حلل وزير الدولة الدنماركي السابق يورجن أورستروم مويلر التغيير في المنطقة. ووفقاً لقراءته في موقع “ناشيونال إنترست”: “لقد حقق الغرب انتصاراً في الحرب الأوكرانية مع اختبار الجيش الروسي وكشف نقاط ضعفه. وأثبت الشعب الأوكراني بما يقطع الشك استحالة التخلي عن الحرية. واحتشد الأوروبيون حول سياسة مشتركة لدعم أوكرانيا وأظهروا استعدادهم لدفع ثمن اقتصادي مع توضيح رفضهم لتهديد الحرية في الجوار. وتدخل الأميركيون بمساعدة عسكرية حاسمة.

وهذا يعني أن الوقت قد حان لصنع السلام، ليس من موقع ضعف بل من موقع قوة. ويدرك الرئيس فلاديمير بوتين صعوبة الخروج من الوضع المأساوي لكنه لن يقبل بالخروج كقوة تعرضت للإذلال. وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، نصح جورج كينان بالاحتواء للتعامل مع تحدي الشيوعية والاتحاد السوفياتي. لكن الوضع يستدعي العكس حالياً: دمج روسيا في نظام أوروبي أو ربما حتى نظام عالمي، بدلاً من توجيهه ضد موسكو. وهذا يعني أن الكرة في ملعب أوروبا إلى حد كبير، حيث يمكن فقط لبنية أمنية أوروبية جديدة أن تمنع حدوث شيء مشابه مرة أخرى. وفي هذا السياق، قد تلعب الولايات المتحدة دوراً أقل.

وكان الأب المفكر للاتحاد الأوروبي جان مونيه (المعروف باسم “أب أوروبا”) قد توقع في مذكراته أن أوروبا ستكون نتاج مجموع الحلول المعتمدة للأزمات التي تواجهها. وحتى الآن، ثبتت صحة هذا التوقع، بحيث أجبرت الأزمة التي أثارتها روسيا الاتحاد الأوروبي على توحيد صفوفه ضد التهديدات الخارجية وإعادة اكتشاف أهمية الدفاع عن نموذجه المجتمعي بالوسائل العسكرية إذا لزم الأمر. ولا شك في أن هناك معارضة وحججاً تحول دون حفاظ جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي الحاليين على المسار. كما قد تشعر دول أخرى غير أعضاء بالإغراء للانضمام مع عدم الحصول على عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي قد يكون مرهقاً للغاية بالنسبة الى الدول ذات الاقتصادات الأقل نمواً.

مع ذلك، لن تسهل صياغة الأمن الأوروبي مع شعور روسيا المتمردة بأنها مهمّشة وتحت تهديد محتمل من الغرب. وعلى العكس من ذلك، المشكلة الأمنية الرئيسة لروسيا موجودة في الشرق في آسيا الوسطى، مقابل دول في القوقاز، وليس في أوروبا. من الناحية السياسية، فرضت الأزمة الأوكرانية على الاتحاد الأوروبي قطع العلاقات مع روسيا، ولكن من الناحية الاقتصادية، لا معنى لذلك، بحيث لا تزال روسيا شريك طاقة واضحاً لأوروبا. وينطبق الشيء نفسه على النقل، فقد تلعب الروابط البرية الروسية مع آسيا دوراً مهماً لنفسها وللاتحاد الأوروبي والصين. العائق الرئيس أمام هذه الهندسة الاستراتيجية هو ماضي روسيا كقوة عظمى وإمبراطورية. ومع ذلك، تمكنت دول أوروبية أخرى من التعامل مع مثل هذه المشكلات في الماضي.

وحان دور موسكو الآن لترى الأشياء كما هي وليس كما يحلو لها أن تراها. والحال أنه فقط من خلال إعادة تعريف روسيا من إمبراطورية إلى دولة قومية، يمكن تنفيذ الإصلاحات. صحيح أنه أمر مؤلم، ويجسد فقدان المكانة، لكنه يفتح آفاقاً لتحقيق مستوى معيشة مرتفع للسكان الروس ويعطي القادة منهم إرثاً عظيماً على مر القرون. وفي حال النجاح في تخطي العقبات خصوصاً الداخلية، قد تصبح روسيا دولة قومية حقيقية تعيش في سلام مع نفسها ومع جيرانها، أي عضو حقيقي في التجمع الأوروبي، تماماً كما أرادها بعض القياصرة. وستأتي مزايا روسيا كبيرة للغاية: ليس السماح لها بخفض نفقاتها الدفاعية وحسب، ولكن إعادة تخصيص تحويلات الأموال إلى الأجزاء الأكثر فقراً من البلاد لإبعادها عن الانفصال.

وبالنظر إلى الشكوك المتبادلة، سيستغرق الأمر وقتاً طويلاً. ستصر كل من روسيا وأوروبا على قدرة دفاعية لردع الطرف الآخر عن خطوات “المغامرة”. من وجهة النظر الأوروبية، لا غنى عن استمرار الوجود العسكري الأميركي على الأقل حتى التأكد من أن الدفاع الأوروبي موثوق، وهذا قد يستغرق عقداً أو أكثر. لا يمكن تحييد الترسانة النووية الروسية التي تتفوق على كل ما يمكن أن يتوصل إليه الأوروبيون إلا من خلال الالتزامات الأميركية في أوروبا.

ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، تمتلك هذه الاستراتيجية مزايا. وبصرف النظر عن ترسانتها النووية، لا تشكل روسيا أي تهديد للولايات المتحدة. قد يكون ذلك مصدر إزعاج في مناطق منعزلة حول العالم، لكن موسكو بعيدة كل البعد عن كونها منافساً مثل الاتحاد السوفياتي. أما عن جوهر مثل هذه السياسة بالنسبة الى أوروبا وروسيا والولايات المتحدة فهو التحرك نحو نوع من التوازن العسكري لضمان عدم تمكن أي منهم من بدء عدوان عسكري ضد بعض الدول القومية الأوروبية مع وجود أي فرصة للنجاح. إذا تأمّن هذا الوضع واستمر لمدة عقد أو عقدين، فقد تصبح الظروف مؤاتية لبدء اندماج روسيا في أوروبا. أما البديل الوحيد لذلك فهو فقدان روسيا التوازن إلى الأبد، واستمرارها في السعي وراء الأحلام المستحيلة باستعادة الماضي “المجيد”، مما يهدد شعوبها وشعوب الدول المجاورة”.

شارك المقال