الاتفاقية الملعونة… المحمودة

أحمد عدنان
أحمد عدنان

مرت بنا هذا الشهر ذكرى هامة من التاريخ اللبناني الحديث، إنها ذكرى اتفاقية 17 أيار التي حرّرها لبنان مع إسرائيل.

عقدت الاتفاقية في لحظة متلاطمة لبنانيا وإقليميا، انسحب الفلسطينيون من لبنان في ظلّ تواجد عسكري إسرائيلي وسوري، تم انتخاب الشيخ أمين الجميّل رئيسا للجمهورية بعد اغتيال شقيقه الرئيس بشير الجميّل، وقابل العرب توقيع مصر لمعاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل بمقاطعة عربية شاملة.

وفي ظل هذه الأجواء الملتهبة، اتخذ الرئيس أمين الجميل قرارا جريئا بالتفاوض مع إسرائيل، فكانت اتفاقية 17 أيار 1983.

هذه الاتفاقية تعكس قدرات وشخصية الجميّل، فقد أعلن ان تفاوضه مع إسرائيل محض ضرورة بحكم حضور جيشها في لبنان، وأن الاتفاقية “ليست معاهدة سلام وليست اتفاقا سياسيا، إنما هي اتفاقية تقنية”. نسّق الجميّل مفاوضاته مع الدول العربية المحافظة مؤمّنا بذلك غطاء سنيا وعربيا لمشروعه، وبعد إعلان الاتفاقية أعلنت دول مجلس التعاون الخليجي “أنها تقف مع لبنان وتتفهمه”.
نال الجميّل بعد ذلك موافقة الزعماء التقليديين سنة وشيعة على الاتفاقية لتنال شبه إجماع داخل الحكومة والبرلمان، وفي ذروة انتصاره لم يصادق عليها، وتفسير ذلك مرده إلى عاملين، الأول هو التفاعل العنيف من بعض الميليشيات “الإسلامية” على الاتفاقية بإيعاز من حافظ الأسد، وتحديدا الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط وحركة أمل الشيعية بزعامة نبيه بري، إضافة إلى الرئيس سليمان فرنجية وقوى يسارية، أما العامل الثاني هو ما بينته الأحداث لاحقا، إذ بدا أن الجميّل سار في خيار التفاوض في إطار مناورة معقدة تستهدف التحالف مع الأسد، فاعتبرت الاتفاقية جزءا من الماضي يوم صرح الرئيس اللبناني “لن يكتب التاريخ أن شخصا من آل الجميّل قد وقّع اتفاقية سلام مع إسرائيل”.

وإذ ننظر إلى بنود الاتفاقية اليوم، نجدها قد حوت نصوصا متقدمة قياسا بتجارب السلام بين إسرائيل وبين مصر والأردن وحتى مع السلطة الفلسطينية، فلا يمكن لأيّ منصف اتهام الاتفاقية بخدش السيادة اللبنانية بما في ذلك التفاصيل العسكرية والأمنية، وهنا لا بد من الإشادة بجهد المفاوض اللبناني المحنك (الدبلوماسي أنطوان فتال) وقدراته الفذة، ومن يطالع شهادات الإسرائيليين ووثائقهم عن تلك المرحلة يلمس مشاعر الإعجاب والتذمر من فتال “هذا الرجل جدار ثلجي أصمّ لا يمكن النفاذ إليه أو التأثير عليه”.

إسقاط اتفاقية أيار، من الجانب السوري وحلفائه تحديدا، حلقة من سلسلة طويلة، أولى تجلّياتها تجسّدت في اتفاقية القاهرة سنة 1969، التي شرعت الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان على حساب السيادة اللبنانية عموما وعلى حساب الوجود اللبناني من أساسه خصوصا، وقد قام حافظ الأسد بكل مجهود لتمرير الاتفاق بصيغته التي خرج بها لغير سبب، إذ كان المهم والأهم عنده تحويل لبنان من دولة مساندة إلى دولة مواجهة من اجل استغلاله والإطباق عليه.

منذ وقّع لبنان اتفاق القاهرة تحوّل رسميا إلى ساحة عسكرية لحروب الآخرين، ووصلت التناقضات الداخلية إلى أوجها وانفجرت حربا أهلية، والمستفيد الأول من هذين النتيجتين هو نظام البعث في دمشق، تمكن الأسد من التسلل عسكريا وسياسيا إلى لبنان، واستطاع أن ينقل بعض حروبه المحلية والإقليمية إليه، وليس هناك خاسر أكبر إلا اللبنانيون، وما زالت الدولة اللبنانية تدفع ثمن توقيعها لاتفاق القاهرة رغم إلغائه عام 1987، وما زالت تدفع ثمن إلغاء اتفاقية أيار التقنية رغم أنها “ولدت ميتة” على حد وصف الرئيس نبيه بري.

ورثت إيران خامنئي الوصاية السورية، بفضل سلاح الميليشيا المسماة “حزب الله”، وقدر اللبنانيين أن يواجهوا الاحتلال الإيراني كما جابهوا الاحتلالين السوري والإسرائيلي، ومنعهم الأسد، بسبب مصالحه الخاصة، من تحقيق انسحاب إسرائيلي 17 سنة، وليس غريبا أن تأتي وفاة الأسد الأب بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000 بأسابيع، ولا ننسى ان ابواق البعث اللبنانية قالت ان الانسحاب الإسرائيلي فخ للبنان، وان انتشار الجيش في الجنوب مشروع إسرائيلي!.

لماذا تريد بعض القوى الإقليمية أن يدفع لبنان منفردا ضريبة الصراع العربي-الإسرائيلي؟ لقد وقّعت مصر والأردن اتفاقية سلام ناجحة مع إسرائيل، وسوريا في حال سلام فعلي معها منذ احتلال هضبة الجولان عام 1967، باستثناء مناوشات كارثية خلال حرب أكتوبر سنة 1973، حيث ساهمت سوريا الأسد في إضعاف الموقف المصري، وضحّت بخيرة الجنود السوريين من دون إنجاز لائق، والوثائق التي تغطي مشاركة سوريا في حرب أكتوبر محزنة جدا، وهذا أقل كلام عن رداءة القيادة العسكرية والسياسية سوريّا.

والأدهى أن الجيش السوري منذ اندلاع الثورة السورية فضّل قتل السوريين وتهجيرهم على مقاتلة المحتل وتحرير الأرض، ولم أتعجب من ذلك من خلال متابعة المفاوضات السورية-الإسرائيلية في عهد الأسد أبا وابنا رغم الرعاية الأميركية ثم التركية، وكأن هضبة الجولان وأهلها لا تعني لحكم البعث شيئا، وهذا هو الواقع الذي شجّع إسرائيل على اعتبار الجولان أرضا إسرائيلية إلى الأبد ثم شجع أميركا دونالد ترمب على الاعتراف بذلك وإقراره. وهنا يجدر التذكير بأن سقوط الجولان تم وحافظ الأسد على رأس وزارة الدفاع من دون صعوبات تذكر في وجه إسرائيل.

الطريف لبنانيا، أن قوى 14 آذار، حين تفاوض بشار الأسد مع إسرائيل في تركيا، أصدرت بيانا ضد المفاوضات ذكرنا ببيانات جبهة الصمود والتصدي، مع أن تلك المفاوضات كانت فرصة لبنانية لاستكمال السيادة لو شارك فيها اللبنانيون كما فعلوا متاخرين في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية.

الإيرانيون اليوم يكملون مشوار حافظ الأسد، قضم السيادة اللبنانية لتدمير الهوية العربية ولتوسيع نفوذ إيران ولاعتماد لبنان ساحة لحروبها المحلية والإقليمية، وبعض اللبنانيين من خصومها، بسوء التدبير، ومن حلفائها، بالعمالة، يدعم غاياتها.

والحقيقة ان المفاوضات اللبنانية الاسرائيلية حول ترسيم الحدود البحرية يلقى احتضانا ايرانيا لغير سبب، ان إيران تريد استخدام مفاوضات الترسيم لتمكين أدواتها نهائيا من لبنان وتغيير هويته، وان إيران تريد القول للغرب بانها عامل السلام وعامل الحرب شمال الأراضي المحتلة، وتقول الادوات الإيرانية في لبنان أنها تسير في التفاوض لان فيه مصلحة لبنانية، ولا شك في ذلك، لكن أليس هذا هو منطق أمين الجميل عام ١٩٨٣؟. وإذا كان التفاوض مشروعا من اجل المصلحة لماذا كانت حرب تموز؟. والأهم انه اذا كان منطق التفاوض للمصلحة مشروعا فهذا يؤكد ان السلاح الإيراني غير الشرعي في لبنان هدفه صدور اللبنانيين وليس تحرير القدس.

ترسيم الحدود البحرية والبرية مع سوريا وإسرائيل مصلحة لبنانية، ولن تتحق هذه المصلحة من دون تحريرها من البازار الإيراني، عبر حصر التفاوض في قيادة الجيش تحت مظلة الحكومة مجتمعة ورئيسها.

لن يستريح لبنان من دون نزع السلاح غير الشرعي ووأد الميليشيات، وستجد الدولة اللبنانية أنه من الضروري إعادة قراءة اتفاقية أيار ودرسها، خصوصا وان المنطقة تعاد صياغتها من جديد.

الاتفاقيات السياسية او التقنية او الحدودية لا تعني توقف الدعم الاقتصادي والسياسي للقضية الفلسطينية، بل ربما أتاحت دعما أنجع للقضية كما شاهدنا في تجارب مصر والأردن، ومن المهم أن نتساءل هنا: كم وفّر لبنان من الدماء ومن الفوضى ومن الدمار لو مضى قدما في اتفاقية أيار؟

شارك المقال