في ذكرى اغتيال “الرشيد”… من يستغلّ ملفه؟

إسراء ديب
إسراء ديب

لا ينسى أي طرابلسي قضية اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رشيد كرامي في ظروف لا تزال غامضة لم تُكشف تفاصيلها الأمنية واللوجيستية بصورة دقيقة ومؤكّدة بعد. فبعد اغتياله في العام 1987 وضع الكثير من السيناريوهات وأطلقت اتهامات عدّة، لم تُفضِ يوماً إلى تحقيق العدالة في هذه القضية التي لم تكن وحدها مصير قادة وطنيين في هذه البلاد، إذْ يستمرّ ملف الاغتيالات والقتل العمد إمّا سعياً إلى إخفاء حقيقة ما، أو رغبة في التخلّص من شخصية وطنية أثبتت ولاءها للهموم المحلّية التي لم تُفارق الأحداث المتراكمة منذ الثمانينيات حتّى يومنا هذا.

بعد استشهاد كرامي، فقدت طرابلس ركناً رئيساً أحبّته ووثقت بقدراته السياسية المعروفة بحنكتها ودهائها، ومع غياب هذه الصفات في الفترة الأخيرة عن الكثير من السياسيين الذين يدّعون “الذكاء والفهلوة”، يستذكر الكثير من الطرابلسيين ولا سيما كبار السنّ “الأفندي” الذي سنحت لهم الفرصة لمقابلته، وهو لم يكن يُمانع أساساً نظراً الى تواضعه من جهة، وشعوره بالمواطنين من جهة ثانية.

في الواقع، يصف الكثير من الناس ملف استشهاد كرامي بالجرح الطرابلسي العميق الذي لم يلتئم مهما مرت السنون، وفي الوقت نفسه، يرى آخرون أنّ هذه القضية التي لم تجد طريقها إلى الحقّ والحقيقة، كانت أكثر قضية تعرّضت للاستغلال السياسي والوطني “من أقرب المقرّبين” قبل الغرباء، ونظراً الى حساسيتها التي أحدثتها حينها، فقدت بعد مرور أكثر من 30 عاماً “هيبتها” الوطنية حين “استهلكت” معانيها المحلّية وأبعادها التي تُشير حرفياً إلى الخيانة الكبرى التي تعرّض لها رئيس حكومة طرابلسيّ الهوى، وديبلوماسيّ حتّى النخاع، “الرشيد” في أحكامه واستراتيجيته الوطنية.

وتأتي ذكرى اغتيال “الرشيد” هذا العام بصورة مختلفة، لا سيما بعد نتائج الانتخابات النيابية التي شهدت توترات قبل انطلاقها خاصّة في الفيحاء، وذلك بعد تحالف النائب أشرف ريفي مع “القوات اللبنانية” ما أدّى إلى ظهور لائحة “إنقاذ وطن” التي خرجت علناً لتُعلن مباشرة عن أهدافها بمحاربة “حزب الله” وسلاحه، والكثير من الملفات التي شدّدت عليها اللائحة في ظلّ دفاعها وتبريرها “المستميت” عن سبب إقحام رئيس حزب “القوات” سمير جعجع في طرابلس عبر مرشحه عن المقعد الماروني إلياس خوري، ما أثار الجدل لفترة طويلة وأدّى إلى حدوث “مناكفات” مع آل كرامي وفي طليعتهم النائب السابق فيصل كرامي الذي كان شغله الشاغل في الفترة الأخيرة التصويب على هذا التحالف الذي حقّق نجاحاً، في وقتٍ كان ولا يزال مراقبون يتساءلون في هذه المرحلة: هل نسي الطرابلسيون قضية رشيد كرامي؟

في الواقع، لم ينسه الطرابلسيون، كما لم ينسوا أيّ شهيد لبنانيّ حفرت دماؤه بصمة لا تختفي أبداً، كالرئيس الشهيد رفيق الحريري، والمفتي الشهيد حسن خالد، وغيرهم من الشخصيات الوطنية التي لم يُستنزف ملفها كما حدث مع كرامي الذي تحوّل إلى مادّة “دسمة” استثمرت قبل الاستحقاق وبعده، وترجمت ببيانات “أخذ ورد”، وكأنّ الطرفين يضعان المواطنين بين مركزين لا ثالث لهما، إمّا محاربة الحزب مع المتهم بقتل كرامي، أو اللجوء إلى المحور السوري – الإيراني الممانع الذي شبعت منه طرابلس لطماً وظلماً.

يُمكن القول إنّ “كرامي جونيور”، لم يتعرّض يوماً لانتقاد يطال سيرته السياسية، فهو من عائلة متجذرة في أرض هذه المدينة بلا أدنى شكّ، ولم يكن يوماً عرضة لاتهام بملفات الفساد والسرقة كغيره من النواب، ووجوده كان “مثل النسيم” داخل مجلس النواب، في وقتٍ تتحدّث مرجعيات طرابلسية عن استغلال كبير من “حزب الله” لملف اتهام جعجع بمقتل كرامي، في تركيز واضح منه على ضرورة تفعيل هذا الملف وتحريكه كلّما استدعت الحاجة، وهذا ما يُفسر بيان الحزب الذي دعا في الذكرى الـ 35 لاغتيال كرامي، إلى معاقبة القتلة، في وقتٍ ربما غاب عن ذهنه، أنّه لم يترك بلدة أو زاوية في سوريا أو اليمن إلّا وتدخل فيها موقعاً آلاف الضحايا الذين لا ذنب لهم سوى انتمائهم إلى بلاد منكوبة سياسياً واقتصادياً وأنهكت وطنياً بشعارات فارغة لم تُؤدّ إلّا الى هذا التدخل الذي يصعب على أحد فهمه أو الخروج من طياته الصعبة، وهي شعارات كان قد تمسك بها قادة لبنانيون ومنهم طرابلسيون، وتعلّقوا بها “حتّى آخر رمق”، واكتشفوا أخيراً أنّها لم تكن سوى “فراغ” لا حياة بعدها أبداً، وأدّت إلى تصفيتهم بلا رحمة بالرصاص أو بانفجار على متن “الهليكوبتر”.

قد لا يقصد كرامي من بياناته المتكرّرة عن الرشيد استغلال قضية عمّه أبداً، لكن لا بدّ من الاشارة إلى أنّه كان حرياً به القيام بإنجازات أكبر على مستوى مدينته التي كانت تحتاج إليه، أو على الأقلّ إثبات نفسه سياسياً كما فعل عمّه، وجدّه أو حتّى والده الراحل عمر كرامي، في وقتٍ تفتقد فيه طرابلس فعلياً لقائد أو زعيم سنيّ تحديداً، لا يقوم بمناصرة محور الممانعة بأيّ شكل من الأشكال، وفي الوقت نفسه لا يفرض مسرحيات محاربة هذا المحور وتمثيلها أمام الطرابلسيين الذين يئسوا من تكرار الأخطاء والثغرات السياسية.

شارك المقال