طرابلس والشراونة في “عين” الإعلام: فصام لبناني أصيل!

إسراء ديب
إسراء ديب

اعتادت مدينة طرابلس على مسارعة الوسائل الإعلامية وتحديداً المحلّية منها، إلى إطلاق أحكام مسبقة وسريعة على أبنائها، في وقتٍ كانت تُحاصر هذه الوسائل مع بعض الأجهزة الأمنية أهالي الفيحاء، باتهامات تُكبّل حرياتهم وتُطلق العنان لحملة “كراهية” نجحت في بثها لأعوام بين المناطق والمدن التي باتت تعتقد أنّ هذه المدينة تُعدّ إرهابية، مخيفة، متشنّجة دائماً، ومتخلّفة… وغيرها من الاتهامات التي ألبسوها للمدينة بملفات وتقارير لا أساس لها من الصحة في معظمها، وحاولت تحدّي الكثير منها عبر “خلع” هذه العباءة “المعقّدة” التي لبستها عنوة.

ليس خافياً على أحد أنّ أيّ حدث، أو إشكال مهما كان بسيطاً في طرابلس، يتحوّل وبسرعة البرق، إلى سلسلة من الاتهامات لها بالإرهاب أو بالتهجم على الجيش اللبناني والقوى الأمنية، حتّى في أكثر الأوقات التي شعر فيها شبان هذه المدينة بالغبن، وقتل بعضهم على أيدي هذه الأجهزة (عن قصد أو بدونه) أو أصيب آخرون بإعاقة شبه مستديمة بسبب إطلاق رصاص حيّ أو مطاطيّ، لدى القيام باحتجاجات شعبية ضدّ الغلاء أو الظلم الذي يعيشه اللبنانيون في وطنهم. لا أحد يشعر بأبناء هذه المدينة، الذين أُدخلوا في موجة من الشائعات تجعل هاتفهم الخلوي عرضة للمراقبة الدائمة، وتجعل الشخص نفسه عرضة للدخول إلى السجن وسحبه من منزله سريعاً بلا اتهام واضح ودقيق عند أدنى شبهة، وذلك بسبب صورة وجدت لأحد الملتحين مثلاً على قائمته الافتراضية، وغيرها من الأساليب المعتمدة لـ”سحب” شبان المدينة وزجهم في السجون، وهذا ما يراه معظم الطرابلسيين “استهدافاً واضحاً لأبناء طرابلس، في وقتٍ ينعم فيه شبان آخرون في مناطق أخرى بالغرق في بحر الفساد والإفساد بلا حسيب أو رقيب”، ومن يجرؤ على محاسبتهم في ظلّ تحكّم أحزابهم بزمام الأمور في هذه الدّولة التي أصبحت هشة أمام نفوذ الأحزاب التي أبعدت لبنان عن حقيقته الفعلية؟

يُمكن القول انّه من غير المنطقيّ إظهار التسامح مع أيّ حدث إرهابي أو التعاطف مع إرهابيين أقلقوا الناس أو هدّدوا السلم الأهليّ والوطني بلا أدنى شكّ، لكن أحداث حيّ الشراونة الأخيرة في بعلبك وما رافقها من تغطية إعلامية أو تعليقات سياسية، تدفع الكثير من المواطنين وبعض المرجعيات الطرابلسية والحقوقية إلى التساؤل: هل باتت طرابلس مكسر عصا أمام الجميع؟ وما الفرق بين حيّ الشراونة مثلًا والفيحاء المحاصرة دائماً بتهمة الإرهاب في عين الإعلام أو السياسيين؟

لا يُمكن إغفال معاناة أهالي حيّ الشراونة مع الأحداث المدانة قطعاً، وذلك بعد وقوع مواجهات مستمرّة بين الجيش اللبناني وعصابات مسلحة في الحي شمالي مدينة بعلبك، في أعقاب مداهمة المنطقة بحثاً عن مطلوبين، أبرزهم علي منذر زعيتر الملقّب بـ”أبو سلّة” (في حقّه مذكرات توقيف عدّة بتهم مخدرات وحيازة أسلحة غير مرخّصة، والتعرّض للجيش)، ولكن عموماً يُمكن رصد الآتي: إنّ الأحداث الأمنية والاشتباكات العنيفة التي دارت في طرابلس بين جبل محسن وباب التبانة بكلّ جولاتها وتفاصيلها، كانت تُعرض مباشرة عبر القنوات التلفزيونية من دون الحاجة إلى متابعة وسائل التواصل الاجتماعي بصورةٍ مكثفة كما يحصل اليوم، إذْ كانت كلّ وسيلة إعلامية لا سيما المحلّية منها ترسل مندوبيها ومراسليها سريعاً لنقل هذا الحدث الذي كان يتضخم إعلامياً يوماً بعد يوم في بث مباشر لا يتوقف طيلة اليوم. أمّا أحداث الشراونة مثلاً، فتقتصر على التقارير الاعلامية أو المقاطع المصوّرة (الفيديو) التي تنتشر عبر المواقع الإخبارية أو التواصل الاجتماعي، على الرّغم من أهمّية الحدث الذي أدّى إلى استشهاد عنصر في الجيش اللبناني وجرح آخرين.

كما لا يقتصر هذا “النقص” في التغطية على حيّ الشراونة فحسب، بل على أيّ حيّ آخر له صفة حزبية أو عشائرية ما ينعكس على مستوى التغطية، مدّتها، والمواد الإعلامية المستخدمة لعرض تفاصيلها، كالاشتباكات التي وقعت أيضاً منذ ساعات مثلاً بين مطلوبين ودورية للجيش في جبعا غرب بعلبك، وهي تظهر كخبر “يمرّ مرور الكرام” بين الوسائل المختلفة سياسياً وإعلامياً، ولا يتمّ التركيز عليه كما يحصل في طرابلس مثلاً، وعرسال سابقاً وحتّى صيدا بعد موجة أحمد الأسير وفضل شاكر.

ويستذكر أبناء طرابلس أحداثهم العسكرية بين بعل محسن والتبانة أو بعد معارك “فتح الإسلام” التي ذاقوا معها وبعدها مرارة العيش حرفياً، ويُركّزون على حجم “الاهتمام” الإعلامي الذي يتمكّن من التدخل في أيّ زاوية تعرّفوا فيها حينها على قادة المحاور، بينما يرصد الطرابلسيون الصفات الإعلامية أو الحكومية التي تُطلق عليهم بعد أيّ حدث أو تظاهرة، وهي غالباً ما تكون مرتبطة بالإرهاب والعنف، في وقتٍ تبتعد هذه الوسائل عن الأجواء المبهجة والأحداث التي تبرز الجانب المشرق في طرابلس. وعند التحدّث عن معارك في مناطق أخرى، لا تجد هذه الوسائل وصفاً مناسباً لها إلّا جملة “البحث عن مطلوبين”، مع العلم أنّ الجيش اللبناني الذي يقع ضحية هذه المداهمات، يجد أسلحة ثقيلة، خطيرة وغير اعتيادية كافية لدقّ ناقوس الخطر لدفع الدولة إلى القيام بواجباتها العاجزة عنها أساساً، فضلاً عن التعدّيات “الصاروخية” التي تُهدّد هيبة الجيش والدولة من بعض “الخارجين عن القانون”، وهو مصطلح تُفضّل الوسائل الإعلامية والبيانات الرسمية استخدامه في مثل هذه الظروف والمناطق.

في الواقع، إنّ تعامل أبناء بعض المناطق مع الجيش اللبناني يُفسّر حجم الهوة الكبيرة الموجودة بين المواطنين والدّولة، وبالتالي إنّ رفض بعض أهالي حيّ الشراونة دخول الجيش كما تُثبت بعض المقاطع، يُوضح مدى بعد المواطنين عن مفهوم الدولة والمواطنة، إذْ بات البعض يُفضّل تحكم “شبه الدّولة” أو “الدويلة” بمصيره، بدلاً من الأجهزة الرسمية التي لا يبدون أيّ ثقة بها وبممارساتها، وبالتالي إنّ مشهد رفض دخول الآليات العسكرية في بعلبك، يُذكّر الطرابلسيون بدخول الجيش اللبناني إلى التبانة، وتفاصيل الخطة الأمنية التي نفذت وفرضت على طرابلس، لكن حينها لم يقم أهاليها برفض عودة الدولة إليهم وقبلوا احتضانها، في دليل قاطع منذ ذلك الوقت على أنّ طرابلس تحتاج إلى دولتها ولا ترفض الجيش أو تبغضه، في حين يُدرك كلّ من يعرف أهالي المدينة أنّها لا تتمكّن من احتواء أجهزة رسمية أخرى كالقوى الأمنية التي يرون أنها كانت ظالمة بحقّهم ولا تزال هذا من جهة، أمّا من جهة ثانية، فقد يرفض الطرابلسيون بعد كلّ ما مرّوا به بعض الوسائل الإعلامية التي كانت تحمل المدفع لضرب طرابلس أثناء تغطياتها أو برامجها الإعلامية، لكن هذه المدينة تصمت وترتدي الرداء الأبيض معلنة سلامها مع مناطق أخرى في ظروف كانت تُشبه برسائلها ما واجهته طرابلس منذ أعوام.

شارك المقال