استراتيجية “حزب الله” الدفاعية عن مصالح ايران!

جورج حايك
جورج حايك

لم ينجح الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله في تظهير حزبه خلف الدولة في قضية ترسيم الحدود البحرية وحقل “كاريش”، وبدا كلامه الأخير مرتبكاً ومتناقضاً، فتارة هو خلف الدولة وما تقرره، وطوراً يهدد ويتوعد بأنه جاهز للتحرك، وأطواراً هو بتصرف الجيش ووراءه إن قرّر المواجهة، وهكذا دواليك على امتداد الخطاب. والحقيقة أن قرار نصر الله في إيران، وخطواته تقاس على وقع مشروعها، وفي المرحلة الحالية هي تسير على وقع مفاوضات فيينا ودور طهران المستقبلي في سوريا والمنطقة عموماً.

لكن ما يحصل على خلفية الخلاف مع اسرائيل حول الحدود البحرية، وتنطّح نصر الله لإطلاق المواقف وتحديد استراتيجية المواجهة، يعيد إلى الأضواء مسألة الاستراتيجية الدفاعية، فلبنان اليوم بأمس الحاجة إلى استراتيجية موحّدة، لكن طاولات الحوار المتتالية أثبتت فشل القوى السياسية في التوصّل إليها، والسبب رفض “حزب الله” كل هذه الاستراتيجيات. لم يستطع اللبنانيون على الرغم من الجلسات الماراتونيَّة لأبطال طاولة الحوار توحيد رؤيتهم لتحديد الصديق من العدو، وهذا ما يجعلهم أعداءَ بعضهم البعض على الرغم من أنهم محكومون بالعيش معاً. اللبنانيون اليوم يدفعون ضريبة هذا الاختلاف الوجودي الجوهري الذي ينعكس توتراً في حياتهم اليوميَّة. وتكفي جولة بسيطة على طاولات الحوار للتأكد من انقلاب “الحزب” على كل المقررات التي تنتج من هذه المؤتمرات الوطنية.

طرح مصطلح الاستراتيجية الدفاعية في لبنان للمرة الأولى على طاولة الحوار اللبناني عام 2006، حيث ناقش الفرقاء مواضيع أساسية من بينها السلاح الفلسطيني وسلاح “حزب الله”. في جلسة الحوار الوطني حاول “الحزب” مراراً اقناع القوى السياسية الأخرى بأن “المقاومة” في صلب الميثاق الوطني وأنه منصوص عنها في إتفاق الطائف لكن هذه المقولة خاطئة بالمطلق. فلا ميثاق الـ43 نصّ عليها وليس لها أثر في الجزء الميثاقي من إتفاق الطائف. إضافة إلى ذلك، فإن “الحزب” وإلى جانب القوى الحليفة له، وقف ضد الطائف يوم تأسيسه على الرغم من أنه يجسّد مشروع إقامة الدولة المغيّبة من جرّاء الحروب المتتاليّة في لبنان: الميثاق، الإصلاح السياسي، حلّ الميليشيات، تقوية القوات المسلحة اللبنانية، تحقيق السيادة بخروج الجيش السوري على مراحل وتحرير لبنان من الإحتلال الإسرائيلي الذي جاء نصه كما يلي: “العمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال الإسرائيلي إزالة شاملة، التمسّك باتفاق الهدنة الموقع في 23 آذار 1949، اتخاذ كل الاجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي، وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها، ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دولياً، والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية في الجنوب اللبناني لتأمين الانسحاب الإسرائيلي ولاتاحة الفرصة لعودة الأمن والاستقرار إلى منطقة الحدود”. وربما يقع الالتباس في القول بـ “إتخاذ جميع الاجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي”، لكن هذا يعني أن الدولة هي التي تتخذ هذه الإجراءات، أو أقله ترعاها وتشرف عليها ولا تسمح بأن تتم على حسابها.

فرض “حزب الله” مقاومته على اللبنانيين تحت مظلّة الرعاية الايرانيّة – السورية، وفي النهاية انسحبت اسرائيل عام 2000، وكان من الضروري أن ينتهي مشروع “الحزب” المتعلّق بالمقاومة. القصد أنه انتهى من الناحية العمليّة، وإن بقي من الناحية الشعاراتيّة أو النظريّة، ولأغراض الاستهلاكات المحلية، بدليل توقف عمليات المقاومة نهائياً، منذ ذلك التاريخ، والتزام “الحزب” حدود “الخط الأزرق”. وطبعاً، فقد حصل ذلك باستثناء لحظة عابرة، ليس لها ما قبلها ولا ما بعدها، تمثلت في عملية خطف جنديين إسرائيليين عام 2006، التي استدرجت ردّة فعل اسرائيلية وحشيّة ومدمرة، دفع لبنان ثمنها غالياً، واعتذر عنها السيّد نصر الله في خطاب شهير له، بأن هذه العملية ما كانت لتتم لو قدّر أن ردّة الفعل ستكون على هذا النحو. بعدها، التزم “الحزب” مضمون قرار مجلس الأمن الدولي 1701، القاضي بنشر قوة دوليّة وقوة من الجيش اللبناني هناك.

لقد توقّفت مقاومة “حزب الله”، علماً أننا لا نتحدث هنا عن توقّف لأسابيع أو لأشهر أو حتى لأعوام عدة، فنحن نتحدث هنا عن فترة طويلة، صرف في غضونها “الحزب” طاقته في الصراعات الداخلية على السلطة في لبنان، وفي تدعيم المحور الايراني.

هكذا بات هذا “الحزب” أمام معضلة مزدوجة، ذلك أن المقاومة التي تستمد مشروعيتها من مقاومتها لإسرائيل توقّفت، وباتت تستثمر رصيد قوتها في الداخل اللبناني ضد أفرقاء لبنانيين آخرين، أي في مقاصد غير تلك التي أنشئت من أجلها.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، أي عند حد الاختلافات السياسيّة، لأن هذا “الحزب” وضع نفسه في موضع تساؤل إزاء ثلاث مسائل: أولاً طابعه المذهبي، ذلك أنه تأسس على العصبيّة المذهبية واستمر على هذا النحو منذ تأسيسه قبل نحو ثلاثة عقود. ثانياً، تبعيّة “حزب الله” لإيران، واعتباره امتداداً سياسياً لها في لبنان، ولاسيما أن قيادته لا تنكر مرجعيتها لإيران، من الناحيتين السياسية والمذهبية، علماً أنه هو من أدخل الاعتقاد بمبدأ “ولاية الفقيه” في مذهب الشيعيّة اللبنانية، الأمر الذي عارضه عدد كبير من أئمّة الشيعة الكبار في لبنان، كما في العراق. ثالثاً، ينتمي هذا “الحزب” الى منظومة الأحزاب الدينية، التي تعتمد سرديّة المظلومية الشيعية ويشتغل على تنمية عصبيّتها في لبنان.

والأسوأ من كل ذلك، وظّف “الحزب” خبراته العسكرية وسلاحه للتدخل في شؤون الدول العربية ارضاء للمصالح الايرانية وجرى ذلك في سوريا والعراق واليمن، مما أساء إلى علاقات لبنان مع دول الخليج وانعكس على الاقتصاد الوطني.

لم يحاول “حزب الله” البتة تكييف بنيته وشعاراته مع الوضع الجديد في لبنان، بعد عام 2000، وتصرّف وكأن شيئاً لم يكن، والنتيجة أن شعب لبنان لم يعد حاضنة للمقاومة، بل إن هذه المقاومة باتت عاملاً من عوامل الانقسام بين اللبنانيين. هذا حصل، أيضاً، بعد ثورات “الربيع العربي”، وبعد الثورة السورية. فقد ربط هذا “الحزب” مصيره بنظام الاستبداد والإفساد في سوريا، من دون مراعاة لمشاعر الشعب السوري.

ربما يمكن لـ”حزب الله” أن يُجنّب لبنان حرباً جديدة أكانت داخليّة بينه وبين معارضيه، أو خارجيّة مع اسرائيل، وذلك بمبادرته إلى تسليم سلاحه أو القبول باستراتيجيّة دفاعية تنظّم مسألة هذا السلاح. لكن هذا الخيار يبدو من سابع المستحيلات لأسباب عدة، أهمها: أولاً، السلاح علّة وجوده والتخلّي عنه يعني نهايته بالشكل المتعارف عليه. ثانياً، قرار سلاحه في ايران التي لا تقبل بأي شكل التخلي عنه، وعن وظيفته الاقليمية التي تخدم مصالحها.

وكيف يمكن التفاهم مع “الحزب” على استراتيجية دفاعية؟ إذ وافق مرة في احدى جلسات الحوار بإدارة الرئيس ميشال سليمان على ما يسمى “إعلان بعبدا” الذي وعد فيه بالالتزام بحياد لبنان ضد الصراعات في المنطقة، وخصوصاً في سوريا والعراق، إلا أنه سرعان ما انقلب على هذا التفاهم، وسار بالعكس فعطّل تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام 11 شهراً، وبدأ انهيار لبنان غير المسبوق في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية، ودفع إلى خروج لبنان عن الإجماع العربي بتصريحات وزير الخارجية الأسبق جبران باسيل، في اجتماعات جامعة الدول العربية، حينما أعطى الحق لـ”الحزب” بالتدخل في الحرب الدائرة في سوريا والدفاع عن نظام الأسد. ومنع “الحزب” الدولة من ضبط الحدود اللبنانية – السورية، ما زاد من عمليات تهريب الأسلحة والمخدرات والتنظيمات الإرهابية، ورفض ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وجيرانه، بحجة المقاومة ضد إسرائيل، لكنه في الحقيقة يريد الحفاظ على مكتسباته، في تمرير احتياجاته عبر الحدود اللبنانية – السورية، أو مطار رفيق الحريري الدولي. أدخل البلاد في فراغ رئاسي لمدة عامين، من أجل الضغط على الكتل السياسية لانتخاب ميشال عون. وسعى “الحزب” وعون الى الإطاحة بحاكم مصرف لبنان، للسيطرة على النظام النقدي اللبناني، وانهارت العملة الوطنية اللبنانية، بعد مقاطعة لبنان عربياً جراء سياساته الديبلوماسية المعادية للعرب، ثم انهار الاقتصاد اللبناني وتوقفت الحركة السياحية، والمصانع والتبادل التجاري، بسبب دخول لبنان في عزلة غير مسبوقة، ناتجة من أنشطة “حزب الله” العسكرية في اليمن والعراق وسوريا. ولم يتوقف نصر الله عن الهجوم على دول الخليج عموماً، والسعودية خصوصاً، مما أساء إلى تاريخ العلاقات اللبنانية – العربية!

ونأتي أخيراً إلى ملف ترسيم الحدود، إذ يحاول “حزب الله” رسم استراتيجية دفاعية جديدة، فهو يقول إنني سأحافظ على دولتي الخاصة عبر تكليف النائب السابق نواف الموسوي بدرس الملف ووضع استراتيجية التعاطي فيه، ويهدد اسرائيل ويتوعدها ثم يرسل اليها رسائل عبر وسيط أوروبي بأنه لن يصعّد، ويعطي المسؤولين اللبنانيين هامشاً من التحرك ليقول انني تحت سقف الدولة لكنني الوحيد المخوّل بأي مواجهة عسكرية وكأنه حائز على حق حصري في الدفاع عن لبنان لكن دائماً وفق أجندة ايرانية واعتبارات تتعلق بمفاوضات فيينا.

في النهاية يُعتبر الدفاع عن لبنان آخر همّ “الحزب” إنما أولوياته الدفاع عن مصالح ايران في لبنان والمنطقة، وهذا ما بات واضحاً لأن لبنان بنظر “حزب الله” ليس إلا ورقة في مهب الريح الايرانية اقليمياً ودولياً!

ليس المطلوب من “حزب الله” أن يعادي إيران، بل العودة الى القرار اللبناني، مع بعده العربي. عندها يمكن بناء “دولة” قادرة على استخراج النفط والغاز، وقادرة على جلب الاستثمارات الدولية، وقادرة على تفعيل ثرواتها الطبيعية والبيئية والطاقوية والسياحية والمائية، وخصوصاً الانسانية.

يتذرّع “حزب الله” بمبدأ المقاومة للوقاية، لكن لا توجد تجربة في التاريخ ترتكز على بناء عمل المقاومة للوقاية الا اذا كان مجرد تبرير لابقاء السلاح. كل المقاومات الفيتناميّة والروسيّة والفرنسيّة انتهت وسلّمت زمام الأمور الى الجيش.

المقاومة مهمة وليست مهنة، إذ قامت على أساس تطبيق القرار 425، وبمجرد تطبيق هذا القرار من المفترض أن تنتهي لا أن تبقى تحت شعار تحرير فلسطين، وانتهاء الصراع مع اسرائيل!

قد يسأل سائل ما هو البديل؟ الجواب: لا يحتاج لبنان إلى فذلكات. تسليم سلاح “حزب الله” إلى الجيش اللبناني وتقويته ورفع مستويات أدائه ورفده بالتسليح المتقدم الكمي والنوعي وتعزيز قواه البشرية وربط البلد باتفاقات دفاعية إقليمية ودولية كما هو حال دول الجوار العربي، على أن يكون سلاح الجيش الذي يأتمر من السلطة السياسية المدنية هو استراتيجية البلد الدفاعية شأنه في ذلك شأن دول العالم أجمع.

شارك المقال