المفتي الشهيد حسن خالد ذلك المجهول

الشيخ حسن شكر

كنت في حداثة العمر يوم التقيت سماحة المغفور له المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، حيث كان يدرّس الصفوف العليا من زملائنا في أزهر لبنان علم المنطق والعقيدة في العام 1965، ولم يحالفني الحظ أن أكون من عداد طلابه لأن اجماع أهل الحل والعقد من المسلمين على اختياره ليكون مفتي الجمهورية اللبنانية في العام 1966، حرمنا من هذا الشرف، إلا أن ما جمعنا بسماحته بعد فترة من الزمن أمران أساسيان: علمي وإدراي.

في الحقل العلمي، بتوجيهاته درست المرحلة الجامعية في الكلية نفسها التي تخرّج منها بالأزهر الشريف في العام 1946، (والعلم نسب بين أهله)، واما في الحقل الإداري، فقد تكرّم فعينني رئيساً لدائرة أوقاف البقاع في العام 1980 وبموجب هذ التعيين أصبحت من عداد مسؤولي المؤسسات الإسلامية التي يعتبر المفتي الأكبر رئيساً لها، تستقي تعليماته وتأخذ بتوجيهاته.

وكان لنشأته الأزهرية ومفهومه للعدالة القائمة على التحرر من العصبية ومن التخلف والجهل، أن تحققت لديه الوسطية والفضيلة والالتزام بمقاصد الشريعة وإظهار التعاطف بين المسلمين. وقامت عدالة المغفور له على عنصريين أساسيين: عدالة السماء وعدالة الأرض، ويتفرع من عدالة الأرض العدالة السياسية وتتحقق في لبنان بإعادة تنظيم الإدارة وتقويمها وإلغاء الطائفية السياسية، وبذلك تكون علاجاً للمشاكل الاجتماعية، ولا سيما مشكلة الهجرة للشباب بحثاً عن فرص أفضل. والمتبصر بشخصية سماحته عن قرب يجد أنواع الاعتدال في شخصه وسلوكه وفكره وقراراته. وكان عقله وتفكيره أقرب إلى عقول الحكماء، وقلبه وسلوكه أقرب الى قلوب السالكين من السادة الصوفية. وبذلك يكون قد جمع بين العقل والقلب في شخصية صبغت كل حياته وظهرت في كل احكامه عندما وليَ القضاء وقراراته عندما تقلد الإفتاء.

ولقد اتّسم رحمه الله بصفاء في الروح وراحة في الضمير وموضوعية مقرونة بثقة كاملة في النفس، مشفوعة بالتقى والصلاح، تُمكّن من يكتب عنه كأنما يغرف من بحر لا من ينحت من صخر.

فانت أمام عالم صافي الذهن حسن السَمَت، جميل المخبر والمظهر، مع صوت قرآني شجي عرفته مساجد العاصمة بيروت وجوامعها وبيوت الضيافة في مكة المكرمة، حيث كان يقدم من بين علماء العالم الإسلامي لامامة المسلمين، خلال الاجتماعات والمؤتمرات الدينية والعلمية او في مواسم الحج والعمرة.

ولقد امتلك رحمه الله الجرأة بالحق، فلا مساومة على مبدأ خلقي أو ديني، ولا أو تساهل بحقوق الضعفاء او المساكين، ولا غنى عن نصيحة الأمراء والسياسيين، يقول الحق (ولا يخاف في الله لومة لائم)، فكان مناصراً للحق مدافعاً عنه حتى الرمق الأخير، متمثلاً قول سيدنا علي بن أبي طالب “لا يعرف الحق بالرجال بل إعرف الحق تعرف اهله”.

وكان رحمه الله يفهم القضية او المشكلة المعروضة عليه بلحظة، ويعبّر عن حلها بحكمة، فلطالما كنا نعرض عليه مشكلات الوقف في المناطق، فنجد الجواب الكافي والرأي السديد الراجح، دون أدنى محاباة او مواربة.

وكان لشدة تواضعه، يستقبل الكثير من موظفيه ومواطنيه ومحبيه دون موعد مسبق، رغم كل المشاغل والمتاعب والمصالح التي يرعاها. والمفتي الشهيد تميّز بشدة احترامه لمحاوريه، ولكل من يخدم انسان الوطن، اعتمادا على قول الله تعالى (وشاورهم في الامر). وكان يطّبق في علاقته مع الشركاء في الوطن قوله تعالى: “قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء”.

ولم يكن المنصب عند سماحته سوى خدمة إنسانية او وطنية. ولم يستغل المنصب لتعيين احد من أبنائه او اقاربه في المؤسسات الكثيرة التي يرأسها رغم وجود الكفاءات العالية لديهم وذلك مراعاة لمضامين المرسوم الاشتراعي رقم 18 المعدل في العام 1955.

اتّسم بصدق الحديث فكان ربانياً في شخصه وسلوكه وصفاء في النفس ولطفاً في الحس وأنساً في المجالس وزهداً في دنيا زائلة ومنصب لا بد سيؤول الى سواه، ولطالما سمعنا منه رحمه الله أواخر أيامه قوله: “لو ورثني والدي بضع دونمات من الأرض، لعملت بها بالزراعة ولاستغنيت عن المناصب والكراسي”، وتأكد لنا هذا باستشهاده واعطائه حياته ودمه دفاعاً عن الحقيقة ويكفيه شرفاً انه استشهد وهو ساجد لله، وكان سماحته أصوليا بجدارة بالمعنى العقدي، يستقي لفتواه من نبعة الشريفة وأصولها القرآن والسنة، ولم يكن أصولياً سلطوياً، بل لم يكن من طلاب السلطة ولم يطلب لنفسه وانما لأمته، لذلك حوّل دار الفتوى في زمانه الى مرجعية لبنانية ولكل اللبنانيين ومركز للخدمات الإنسانية والاجتماعية وبذلك اعطى للمنصب قيمة معنوية فوق قيمته الأساسية.

وكنا ونحن فسيلة من غرساته نعتز وأقراننا بالعمل في ظله، وبوحي تعليماته وسديد توجيهاته، والانسان بطبيعته ميال لأن يكون أبوه ورئيسه بل ومرجعيته ذو شخصية قوية وفكر مستقيم، لانه يمثل السند الأخير في الدفاع عنه وعن مستقبله، فكيف والمفتي رحمه الله كان ملء سمع الزمان وبصره.

وامام هذه الشخصية، كنا موظفي الدار في العاصمة والأمصار نلمس أبوّته ورعايته حينما يتلطف، فيسأل عن أوضاعنا وأسرنا ومتاعبنا، فكنا ورب الكعبة أسرة واحدة ومجتمعاً صغيراً، عالِمنا ينصح متعلمنا وكبِيرنا يعطف على صغيرنا وغنينا يقري فقيرنا. هذا المجتمع الصغير، أدى الى ازدهار المؤسسات التابعة لدار الفتوى، اما في الأوقاف او المجلس الشرعي او المحاكم الشرعية او ازهر لبنان بفروعه او صندوق الزكاة، الذي اصبح خط الدفاع الأول عن كرامة الفقير في لبنان وصمام امان لمن افقره الزمان، ولم يكن رحمه الله يتدخل في المؤسسات وانما كان يوجّه وكان بسلوكه واستقامته ونظافة كفه وسديد رأيه ان استقامت الأمور طيلة فترة توليه منصب الإفتاء ولتميّزه بالجراة في قول الحق مع حنكة وبصيرة وخبرة واسعة وثقابة في النظرة، لا يتوانى عن ابعاد كل من تدور حوله شبهة وتقريب كل صاحب كفاءة او عدالة، فأسند قيادة المؤسسات الى علماء واعلام اشتهروا بالصلاح والصدق والاستقامة (والناس على دين ملوكهم).

عرفناه انساناَ ولا ازيده، بصفات يملك اكرمها، وندر ان نجد في دنيانا انسانا يعيش حقا بقلبه، انسانا يعيش بحقائقه، انسانا يعيش بقيمه وبوعي قيمه، عشنا معه كاننا في جنة وكان يصلي بالمسلمين ومعنا الله في صلاته غير من يصلي وحظ انفسهم، اسبق من المعنى الرباني، فصلاته في معبد الوطن قدس وليس في هذه الزفرة التي انطوت عليها هذه الكلمات حروف استوت في الفاظ وانما هي حشاشة قطرت رياحينها وجرت في حروف رسمتها ثم جمُدت فيها.

ترسخت لدى سماحته وحدة الموقف الإسلامي في لبنان، ومن هنا اعطى للعمل الإسلامي في المجال الوطني حجمه السياسي الحقيقي ولم يكن موقفه بتوحيد المسلمين غاية بذاته وانما وسيلة لغاية وطنية واضحة ابعد، وهي توحيد المواطنين على اهداف وطنية مشتركة من اجل وطن هو للجميع دون استثناء.

والمفتي رحمه الله كان يعي تمام الوعي ومنذ تسلمه مقاليد الإفتاء، انه مفتي الجمهورية وليس مفتي السنة، ومواقفه وكتابه “المسلمون والحرب الاهلية في لبنان” يشهد على طبيعة المسؤولية الوطنية التي مارسها منذ اليوم الأول في الإفتاء، وحتى لحظة استشهاده وقوامها التصدي للمذهبية وبالدعوة الى وحدة اللبنانيين والتصدي للقوقعة بالدعوة الى التضامن العربي وفي مقدمة دفاعه عن فلسطين السليبة. لذلك دقت أجراس الحزن في كنائس لبنان تحية ليوم رحيله وفتحت البطريركية المارونية قاعاتها لتقبل التعازي برحيل المفتي الوطني المميز.

سيدي صاحب السماحة وانت في علّيين مع الشهداء والصالحين، باستشهادك علمتنا حب الأوطان وعلمتنا ان رياض المجد لن تُنال الا بدمائنا وجنات البطولة لم تتزين الا من أجساد شهدائنا، فهل عرفت الدنيا انبل او اكرم او اجل او اعظم او ارقى او اعلم من بني امتنا، الم تصبح قوتنا بايماننا وعزتنا بديننا وثقتنا بربنا منهجا وقرآننا قانونا وأمير قومنا خادما للامة، الم يصبح ضعيفنا المحق قوي فينا وقوينا عون لضعيفنا وكلنا اخوان في الله.

لن نهن ولن نحزن، طالما الله معنا ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة النداء العلوي المقدس والنشيد القوي الله اكبر.

لن تنال منا صروف الزمان ونحن في وسط عربي إسلامي يمثل وطنا لنا …

سيدي مع الشاعر الجاهلي السمؤال نردد:

الموت خير من ركوب العار

والعار خير من دخول النار

والله في هذا وهذا جاري

والحكيم قديما قال: ان الحسن أحمر

رحمك الله، انسك في غربتك، ادخلك فسيح جناته.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً