بيان جنيف!

اكرم البني
اكرم البني

عشر سنوات عجاف مرت على صدور بيان جنيف (30/6/2012) بمشاركة ممثلي القوى الإقليمية والدولية المعنية بالملف السوري، وتضمن خطة طريق لحل سياسي، عبر وقف العنف والإفراج عن المعتقلين وضمان حق التظاهر والتعبير ووضع سوريا على عتبة مرحلة انتقالية وصولاً الى انتخابات حرة وتعددية.

عشر سنوات مرت على التسويف والمماطلة من قبل السلطة وحلفائها، ايران وروسيا، للالتفاف على هذا البيان وإفراغه من محتواه، ربطاً بتسعير العنف والقصف والاجتياح وفرض حصارات خانقة وهدن مذلة وتهجير قسري، تخللتها مبادرات مغرضة، قادتها روسيا لخلق مسارات سياسية جانبية تمكنها من التحكم بمصير الصراع السوري ومستقبله، ويمكن أن ندرج في هذا السياق “إعلان موسكو” (كانون الثاني 2016) الذي أصدرته روسيا وإيران وتركيا بعد عام من القرار الأممي /2254/ الذي استند الى بيان جنيف، تلاه ما عرف باجتماعات الآستانة بعد عام آخر (كانون الثاني 2017) والتي إن حققت بعض النتائج الميدانية وفرضت ما عرف بمناطق خفض التصعيد، ما شجع قيادة الكرملين، بعد عام جديد (كانون الثاني 2018) على عقد مؤتمر سوتشي عساه يشكل طوق نجاة سياسياً يخرج الوضع السوري من حالة التفسخ والاستنقاع، كل ذلك من أجل أن يكون التصور الروسي بديلاً للمرحلة الانتقالية التي تحدث عنها بيان جنيف وأن يعمل مسار الآستانة على إزاحة مسار جنيف التفاوضي، الأمر الذي يعني استمرار التعطيل والاستعصاء في التوصل إلى حل سياسي ينسجم مع أبسط تطلعات الشعب السوري.

ثمة فارق كبير بين جهد دولي يضع حداً لصراع دموي متفاقم منذ سنوات في سوريا وفق بيان جنيف (2012) وبين المبادرات الروسية التي تكتفي بتفويض رعاتها إدارة هذا الصراع وتوجيهه وفق مسارات تخدم مصالحهم المشتركة، والفارق كبير تالياً بين النقاط الست لبيان جنيف التي تتلاقى مع طموحات غالبية السوريين في التغيير السياسي، وبين خطوات جزئية لتخميد القتال يحدوها إنشاء ما سمي مناطق خفض التصعيد، وفرض تسويات وهدن ومصالحات على جماعات المعارضة لتسليم أسلحتها وتهجيرها قسرياً إلى الشمال السوري، الأمر الذي أنقذ النظام ومكنته، وزاد من ضعف المعارضة وارتهانها، من دون تحقيق أي تقدم في العملية السياسية، وآخر الأدلة، فشل الجولة الثامنة عشرة من اجتماعات الآستانة وقبلها فشل الجولة الثامنة للجنة الدستورية.

يجد البعض أن العجز في وضع بيان جنيف موضع التنفيذ يعود إلى البنية التكوينية للنظام السوري الذي يخشى السياسة ولا يعرف غير القمع والتنكيل طريقاً لضمان استمراره وسطوته، والقصد أن تغييب الحقل السياسي هو عادة أصيلة عند سلطة معجونة بتاريخ طويل من القهر والغلبة، يعززها نهج أنتجته وفرة من تجاربها القمعية، بأن العمل المجدي لدوام سيطرتها ليس الاستجابة لمطالب الناس ومعالجة مشكلاتهم ونيل ثقتهم، بل الاستمرار في إرهابهم واذلالاهم وشل دورهم، وإذا أضفنا تحسب بعض رجالاتها لدور أية تسوية سياسية في تقريب ساعة المساءلة والحساب والعقاب، خاصة أولئك الذين أوغلوا في ارتكاباتهم، وأضفنا أيضاً، حقيقة أن السلطة القائمة هي خير من يعرف أن القطيعة بينها وبين قطاع واسع من المجتمع وصلت إلى نقطة لا رجعة منها جراء ما أباحته من قمع وقتل وتدمير، وتدرك تالياً، حتى وهي تدعي أنها في موقع القوة، مخاطر الإجراءات المرافقة للحقل السياسي، حتى الشكلية منها، المتعلقة بصياغة دستور جديد وخوض انتخابات رئاسية وبرلمانية وتشكيل هيئة حكم انتقالي، في هتك هيبتها وسطوتها وتحريض الخلافات في بطانتها وبين مراكز قوى متباينة المصالح والأهداف تشكلت في آتون الصراع، وأضفنا أخيراً ما قد يكشفه المسار السياسي عن دورها ومسؤوليتها في المشكلات الناجمة عن الحرب وتداعياتها، كالتهتك والتردي الاقتصاديين والأوضاع المعيشية المزرية ومعضلات الخراب والأمن والتفكك الوطني والفساد وقضايا اللاجئين والمعتقلين والمغيّبين والمشوهين، يمكن الوقوف عند أهم الأسباب التي تؤكد عجز السلطة السورية عن خوض معركة سياسية ومدنية مكشوفة، وعمق دوافع رفضها الامتثال لقواعد الصراع السياسي.

بينما يربط آخرون سبب العجز بواقع المعارضة السياسية والعسكرية، هشاشة كياناتها وتشرذمها، شدة ارتهانها للدعم الإقليمي والدولي، صراعاتها البينية وفشلها في إدارة ما تبقى لها من مناطق نفوذ، لتبدو اليوم في أسوأ حالاتها، ضعيفة وعاجزة عن لعب أي دور سياسي فاعل، يزيد الطين بلة عماء التطرف الاسلاموي والنهج المستهتر بأرواح الناس لجماعات تنظيم “القاعدة” التي لن تفيدها مناوراتها المفضوحة لتغيير جلدها، إن بابتداع أسماء جديدة، من “النصرة” إلى “فتح الشام” إلى “تحرير الشام”، وإن بإقامة مجالس مدنية وتشكيل ما سمي حكومة إنقاذ، ما دامت لم تتوان منذ سيطرتها على إدلب (2015) عن سحق بقية الفصائل العسكرية المختلفة معها، واغتيال الإعلاميين المستقلين والكوادر الوطنية السلمية.

وبين هذا وذاك ثمة من يرجع السبب الى غلبة دور الأطراف الخارجية في التحكم بالصراع السوري ومستوياته السياسية والعسكرية على حساب جميع أطرافه الداخلية، وتالياً ابتلاء السوريين بسياسات عربية ودولية تجاه ما يكابدونه لا تجد تفسيراً لديهم سوى أنها “مؤامرة كونية” تتقصد إجهاض ثورتهم وحلمهم في الحرية والتغيير، يحدوها غياب إرادة أممية حازمة تجبر أطراف الصراع على ترك ميدان الحرب والالتفات نحو المعالجات السلمية.

واستدراكاً، لا مكان بعد عشر سنوات من بيان جنيف للحديث اليوم عن تسوية سياسية في سوريا، ما دام ثمة صعوبة، إن لم نقل استحالة، في التوفيق بين مصالح متعارضة تمثلها قوى عربية ودولية وجماعات من النظام والمعارضة، زادها تعارضاً ما كرّسه طول أمد الصراع والعنف المنفلت من نتائج مؤلمة اجتماعياً واقتصادياً، ما يرجح استمرار المحنة السورية لسنوات وبقاء الصراع الدامي مفتوحاً في موجات مد وجذر، متخذاً أشكالاً مختلفة ومتنوعة، وتالياً بقاء الوطن السوري رهينة لما يقرره التوغل المريع للأطراف الخارجية، وما ترسمه خلافاتها وتوافقاتها، في مناخ عالمي تتأجج صراعاته بعد الحرب في أوكرانيا، ويستعيد الصورة النمطية البغيضة لدول كبرى تستهتر بمصير البشرية وتتوسل منطق الغلبة والمكاسرة في المنازعة على الهيمنة والنفوذ من دون أن تقيم اعتباراً لحيوات الشعوب وحقوقها، وتالياً الصورة المخجلة لمؤسسات أممية ضعيفة وعاجزة عن تحقيق أي اختراق جدي لأداء واجبها بحفظ السلم والأمن وحماية المدنيين وحقوق الإنسان.

شارك المقال