خط “حزب الله” التراجعي بالأدلة والوقائع!

جورج حايك
جورج حايك

منذ 15 أيار المنصرم، تاريخ اجراء الانتخابات النيابية يبدو “حزب الله” في خط تراجعي، قد يكون تكتيكياً في بعض المحطات، إلا أن التحوّل الأساس يتمظهر في اعلان “الحزب” وقوفه خلف الدولة في استحقاقات عدة، حتماً ليس السبب حالة وعي سياسية ومراعاة لمصلحة لبنان إنما توجيهات ايرانية لتبريد الأمور على ايقاع المفاوضات النووية التي يتغيّر فيها منسوب التفاؤل والتشاؤم كل فترة.

لا شك في أن الانتخابات النيابية كانت محطة مفصليّة في الحياة السياسية اللبنانية، على الرغم من ترويج البعض إلى أن لا جدوى منها في ظلّ استقواء “حزب الله” بسلاحه وتسليم قرار الدولة اللبنانية إلى ايران، لكن سيطرة محور المقاومة والممانعة لم تأت من العدم إنما انطلاقاً من سيطرة حلفاء ايران على المؤسسات الرسمية بدءاً من المجلس النيابي السابق الذي كان يضم أكثر من 70 نائباً موالياً لمحور المقاومة والممانعة، وغالباً ما كان يتفاخر المسؤولون الايرانيون بالأكثرية النيابية الحليفة لهم، لكن المشهد تغيّر في 15 أيار، إذ صوّتت أكثرية اللبنانيين للقوى السيادية والتغييرية، مؤكدة رفضها للنمط السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعتمده “الحزب” وحلفاؤه. صحيح أن الأكثرية الشيعية جددت ثقتها بالثنائي الشيعي، إلا أن ايران أدركت أنها فقدت عنصراً من العناصر القوية في الساحة اللبنانية، لذلك يحاول “الحزب” امتصاص هذه الهزيمة المعنوية والسياسية التي عبَّرت عنها نتائج الانتخابات واحتواءها باللعب على التناقضات الموجودة في الجبهة المُقابِلة له، فثمَّة اختلافات في المقاربات بين الكُتَل التي حازت مقاعد في البرلمان، وهذا ما استغله “الحزب” في انتخابات نائب رئيس المجلس وهيئة مكتب المجلس واللجان المشتركة وأخيراً في تسمية الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل حكومة.

أولى علامات تراجع “حزب الله” بعد الانتخابات، ابداء مواقف متواضعة، خارجة عن المألوف، من مسؤوليه تبدي رغبة في التعاون مع الكتل النيابية الجديدة. فـ”الحزب” لم يخسر شيعياً إنما أصيب بخسائر مباشرة على صعيد حلفائه، بدءاً من “التيار الوطني الحر” مروراً بحلفائه من السنّة والدروز، وصولاً إلى الحزب “السوري القومي الاجتماعي”.

صحيح أن “الحزب” وحلفاءه نجحوا في تكليف الرئيس ميقاتي الذي يعتبرونه الأقل سوءاً، إلا أنهم أصبحوا فاقدي التأثير بإخضاعه لشروطهم، ومن علامات التراجع تخلي “الحزب” عن لغة التهديد التي اعتاد عليها، وبات يكتفي بالدعوة إلى حكومة وحدة وطنية لا تستسيغ المعارضين، وبالتالي هو يعرف أنه لا يستطيع أن يؤمّن لها الأكثرية لنيل الثقة إذا لم تكن التكتلات السيادية والتغييرية راضية بها.

ربما لا يزال “الحزب” قادراً على تحقيق التوازن في مواجهة القوى المناوئة له بحيث يستطيع التعطيل، إلا أن الهيمنة على الاستحقاقات والقرارات أصبحت ضعيفة إن لم تكن مستحيلة في ظلّ المجلس النيابي الجديد.

قبل انتهاء عهد الرئيس عون بأربعة أشهر، يبدو تشكيل الحكومة لزوم ما لا يلزم، إلا لـ”التيار الوطني الحر” الذي يحاول كسب بعض مراكز القوة للمرحلة التي تلي نهاية عهد عون، وخصوصاً إذا تعذّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ويعرف “حزب الله” أن حكومة تصريف الأعمال قد تستمر في إدارة هذه المرحلة بعد 31 تشرين الأول المقبل، وهو لا يملك قوة فرض واقع أخرى.

لا يختلف اثنان على أن معركة الانتخابات الرئاسية ستكون ضارية بين “حزب الله” وحلفائه من جهة والقوى السيادية والتغييرية من جهة أخرى، ولو بقيت الأكثرية النيابية مع “الحزب” لكانت عملية انتخاب سليمان فرنجية أو جبران باسيل عملية سهلة وخصوصاً أن الرجلين حليفان وفيان لـ”حزب الله” ومحوره، إلا أن لا شيء مضموناً في ظل التكتلات النيابية التي تتقاسم المقاعد في المجلس، وبات “الحزب” بإنتظار تسوية قد تأتي كثمرة من المفاوضات النووية ويكون انتخاب الرئيس مرضياً عليه من ايران والولايات المتحدة، وهذا يعني رئيساً لن يكون طرفاً إنما رئيساً وسطياً يدوّر الزوايا على شاكلة الرئيس ميقاتي! علماً أن طموح القوى السيادية والتغييرية سيكون رئيساً غير راضخ لـ”الحزب” ولا يقبل بأنصاف الحلول على حساب السيادة واستقلالية قرار الدولة والانفتاح على المجتمع الدولي ودول الخليج.

هذا الكلام لا يدعو إلى الاستغراب إذا نظرنا إلى تاريخ “الحزب” الذي اعتمد البرغماتية في بعض المراحل وفقاً لما تقتضيه المصلحة الايرانية، وربما المرحلة المقبلة التي قد تفضي إلى استنهاض الاتفاق النووي الأميركي – الايراني، تتطلب منه البرغماتية وبعض التراجع التكتيكي، ولدينا في هذه الحالة ملف يجري اليوم التفاوض حوله وهو ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل.

على صعيد هذا الملف الشائك يسجّل “الحزب” تراجعاً ملحوظاً عبر اعتماده التقية السياسية، إذ فجأة تحول مؤخراً من المتاجرة السياسية بقضية الغاز ونهج التشدد في الملف، إلى التساهل حد الخنوع، وسط تقارير عن سعي منه الى اتفاق يحقق فيه مصلحة خاصة، أوضحها ضمانات على ترسانته من الأسلحة في اتفاق تحت الطاولة مع الإسرائيليين.

علامات استفهام كبيرة ترسم حول “الحزب” من خلال اختباء قادته خلف المواقف الرسمية للدولة اللبنانية والتي لم يكن الحزب يوماً منساقاً معها، بل رفع دوماً راية العصيان في وجه الدولة وأجهزتها الرسمية. وقد بدا موقفه من “الاعتداء” على حقوق لبنان البحرية باهتاً، خصوصاً بعد أن رمى نائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم الكرة في مرمى السلطة التنفيذية على غير العادة، حين قال إن “المسألة تتطلب قراراً حاسماً من الدولة اللبنانية، التي ينبغي أن يكون لديها ضغط أكثر في مسألة ترسيم الحدود البحرية”.

والتفسير المنطقي لهذا الأداء أن “الحزب” غير قادر على التصرف من تلقاء نفسه، إذ ينتظر قراراً إيرانياً في هذا الشأن، بدليل التواطؤ بينه وبين عون على إهمال حدود لبنان وعدم توقيع مرسوم قانوني بشأنه. وبات القاصي والداني يعلم أن حديث “الحزب” عن المقاومة هو كذب ومهزلة وهرطقة سياسية، خصوصاً بعد الحديث عن صفقة إسرائيلية لم يبد اعتراضه عليها.

كل ما يصبّ في خانة التراجع التكتيكي والبرغماتية والتقيّة لن يؤدي إلى تغيير “الحزب” سلوكه وأهدافه، بحكم الرابطة الأيديولوجية القوية التي تربطه بإيران، إلا أن المفتاح الوحيد قد يكون حصول اتفاق بين إيران والقوى الغربية في فيينا أو الدوحة، ومن ثمَّ تطوُّر الأمور في اتجاه يجعل إيران نفسها راغبة في التوصُّل إلى تسويات إقليمية تُفضي إلى التأثير على سياسات “حزب الله”، بحيث تخفِّف من حضورها الأمني والعسكري ولو قليلاً، ومن سلوكيات حلفائها غير المرضي عنها في الغرب.

والخط التراجعي لـ”الحزب” يشمل أيضاً الساحة السورية حيث يتلقى الضربة الاسرائيلية تلو الأخرى هناك، وبات من الصعب عليه تمرير الأسلحة المتطورة الى لبنان، معتمداً “الصبر الاستراتيجي” الذي أصبح نكتة متداولة لدى المراقبين.

ويؤكد بعض العارفين بكواليس المفاوضات النووية أنها ستؤدي حتماً إلى تقليص البصمة العسكرية للإيرانيين على خريطة الشرق الأوسط، ومنها تآكل مكتسبات “حزب الله” العسكرية والسياسية في كل الدول التي يحافظ فيها على نفوذه. ففي العراق، وبعد الانتخابات العراقية التي تمخَّض عنها صعود مصطفى الكاظمي، أضحت الحكومة في بغداد أقل ارتياحاً حيال الميليشيات الشيعية، وأكثر رغبة في تشكيل قوة نظامية حقيقية تضبط بها الأوضاع بمعزل عن طهران. وفي سوريا، وعلى الرغم من الاستقرار النسبي لصالح بشار الأسد وحلفائه، فإن الوضع الروسي المُعقَّد الآن في أوكرانيا قد يؤثر على الخارطة عاجلاً أم آجلاً، لا سيما الإخفاقات المتزايدة للروس في الساحة الأوكرانية والعقوبات الشديدة على روسيا وحلفائها!.

يبدو أن “حزب الله” يتهيّب ما قد يحصل في حال توقيع اتفاق نووي بين الولايات المتحدة وايران، على هذه الخلفية، وثمة وعود أميركية من ادارة الرئيس جو بايدن لمسؤولين لبنانيين واللوبي اللبناني في واشنطن باعتماد سياسة أميركية تجاه لبنان مستقلة بعض الشيء عن سياستها العامة للشرق الأوسط، لجهة تطبيق القرار 1701 بحذافيره، ومراقبة الحدود اللبنانية – السورية بفاعلية أكبر لكي لا تزيد ترسانة “حزب الله” قوة أكثر مما هي عليه الآن، وثمة اتجاه إلى نداء البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي المطالب بالحياد وتنظيم مؤتمر دولي من أجل لبنان!

شارك المقال