لبنان الكبير يستحق الحياة!

رامي الريّس

مرّت الذكرى المئويّة الأولى لولادة لبنان الكبير (أعلنت ولادته من على شرفة قصر الصنوبر في بيروت في الأول من أيلول/ سبتمبر 1920) العام الماضي باهتة وهزيلة. فاللبنانيون شعروا للمرة الأولى منذ حقبة الحرب العالميّة الأولى بشبح المجاعة يلوح مجدداً أمامهم فاستعادوا بذلك شريطاً مؤلماً من الذكريات التي لم يتصوروا يوماً أن ثمة إمكانيّة للعودة إليها.

لقد عرف لبنان فترات ذهبيّة إنتعش فيها إقتصاده وتجارته ومصارفه وسياحته وخدماته، ولكنها كانت مجرّد قشور سطحيّة لم تنجح يوماً في الانتقال بلبنان نحو تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعيّة وإنماء الأرياف والحد من إنتشار الفقر. كانت الفلسفة الاقتصاديّة القائمة على مزيج غريب من البورجوازيّة والرأسماليّة غير المقيّدة تستند إلى الكثير من الفوضى إنما تحت شعارات مختلفة.

منظرو النظام الاقتصادي الذي وُضعت عناصره الرئيسيّة في حقبة الانتداب الفرنسي، وكرّستها مرحلة الاستقلال لم يسعوا لتعزيز مفهوم الاقتصاد الانتاجي بدلاً من الاقتصاد الريعي، وهو ما دفع في إتجاه تعميق الانقسامات الطبقيّة وتوسيع الفوارق الاجتماعيّة بين الشرائح المختلفة.

لقد إفتقد لبنان لشبكات الأمان الاجتماعيّة التي لا تتحصن إلا من خلال نظام سياسي ديمقراطي برلماني يرتكز بشكل أساسي إلى آليات فاعلة في مجالي المحاسبة والمساءلة، وتواكبه سلطة قضائيّة مستقلة قادرة بدورها على القيام بمهامها دون أن تكون مرتهنة إلى السلطة السياسيّة التي تتحكم بترقياتها وتشكيلاتها وتنظيمها.

أما اللوثة الطائفيّة والمذهبيّة التي قسمّت لبنان واللبنانيين ووزعتهم على محميات ومزارع فكانت ولا تزال سبباً رئيسيّاً يحول دون مساواتهم أمام الدستور والقانون، ما يجعل التمييز بينهم فاضح ومعيب، كما جعلت الطوائف ممرات إلزاميّة لهم تجاه دولتهم المرتجاة التي إنتظروا قيامتها لعقود دون جدوى.

ولكن، مع كل هذه العثرات والمصاعب، ومع الفشل الجماعي في العبور نحو مشروع الدولة المدنيّة التي تتيح وحدها المساواة بين المواطنين، لبنان الكبير يستحق الحياة. صفاته العديدة التي لم يبقَ منها سوى القليل تستحق النضال من أجلها: الحريّات العامة والخاصة، التعدديّة والتنوّع، العيش المشترك (رغم سقوطه في حقبات النزاعات المسلحة) الذي يثبت بعد كل تجربة من التجارب المرّة والباهظة الثمن أنه الخيار الوحيد المتاح أمام اللبنانيين، لأن البدائل مدمرة ولا تعدو كونها قفزات في المجهول.

قد ينظر البعض إلى لبنان على أنه خطأ تاريخي، فيما يعتبره البعض الآخر بأنه بمثابة خطأ جغرافي. ويذهب هؤلاء وأولئك للتذكير بالمقولة الشهيرة للصحافي جورج نقاش: “سلبيتان لا تصنعان وطناً” في إشارةٍ إلى تراجع المسلمين عن طلب الانضمام إلى سوريا مقابل تراجع المسيحيين عن المطالبة للالتحاق بفرنسا والغرب. “لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة”، هذا القول للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني.

يستطيع لبنان أن يحقق ذاته ويعتّد بها، دون الغرق في الشوفينيّة المقيتة؛ ويستطيع في الوقت ذاته أن يكون جزءاً فاعلاً من العالم العربي بفعل هويته العربيّة التي حسمها إتفاق الطائف بعد نزاع طويل دام لعقود، تماماً كما يستطيع أن يكون جزءاً فاعلاً من الأسرة الدوليّة بحسب قدراته وإمكانياته، إنما أيضاً بحسب دوره وموقعه ورسالته.

إن الأزمة التي يعيشها لبنان اليوم غير مسبوقة بكل المعايير والمقاييس، بحيث فقد عدداً كبيراً من ميزاته التفاضليّة التي كانت تمنحه ذاك الموقع الذي إفتقدته العديد من دول المنطقة. إنها أزمة وجوديّة بكل ما للكلمة من معنى. ولكن، إنهيار لبنان الكبير لا تقتصر تداعياته على حدوده الداخليّة. فعدا عن الانهيار المباشر لمنظومة القيم التي يمثلها كالحرية والعيش المشترك والانفتاح؛ ثمة تداعيات سياسيّة هائلة قد تتولد عن هذا الانهيار.

لبنان الكبير يستحق الحياة!

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً