الوقحون لا يريدون الحقيقة

محمد شمس الدين

الوقاحة، هي الصفة الوحيدة التي تطلق على كل من اعتبر أن جريمة مثل انفجار 4 آب هي عتبة سياسية. مدينة دمرت، 200 ضحية سقطت، وكل ما يهم السياسيين في لبنان “الانتصارات السياسية”. كل جهة كان همها تسجيل الأهداف ضد الطرف الخصم، لا يهم التحقيق ولا العدالة، المهم أن يخرج المسؤول على الاعلام ويتحدث عن شعوره بالأسى والتضامن مع الضحايا وأهاليهم، ويصوّب على الجهة التي يريد أن ينتصر عليها في السياسة، ويتم تداول مقاطع على مواقع التواصل، ترصد التعليقات المؤيدة، من جيشه الالكتروني. أما أدنى مستوى وصل إليه مسؤولو هذا البلد، فهو تحويل ملف انفجار المرفأ إلى نزاع طائفي، وكأنه لا تكفي الطائفية التي تنخر عظام هذا الوطن، وقد تحول أهالي الضحايا إلى ذخائر أسلحة يستعملها الخصوم السياسيون ضد بعضهم البعض، وقد قسموهم، كما قسموا كل شيء في لبنان، الى أهالي مع هذا الفريق، وأهالي مع ذاك الفريق، هذا يهاجم القاضي، وذاك يهاجم السياسي، والحقيقة تضيع أكثر فأكثر.

تسابق السياسيون أمس في الذكرى الثانية للجريمة الكبرى، على وسائل الاعلام، حتى غصت الصحف والقنوات والمواقع بالتصاريح، وكلهم يريدون الحقيقة، ولكن أي حقيقة؟ لا أحد يعرف. هي الحقيقة التي تناسبهم وتناسب أجنداتهم، لا التي تحقق العدالة. هي الحقيقة الكاذبة، التي يبتغيها الساسة، وتمكنهم من تسجيل أكبر عدد من الأهداف في مرمى خصومهم، بينما هناك أم، لا أنيس لها إلا الدموع بعد فقدانها أعز ما تملك، ولدها الذي تعبت سنين في تربيته وفقدته في لحظة. وما يزيد المأساة أن صوامع القمح سقطت أمس بالتزامن مع الذكرى، لتعيد فتح الجرح من جديد، وتعيد اللبنانيين إلى ذلك اليوم المشؤوم، الذي هز عاصمتهم ودمرها.

اليوم هناك من يعتبر أن التحقيق الدولي هو الحل الوحيد للوصول إلى العدالة، ولكنه تناسى أن التجربة مع التحقيق الدولي ليست مشجعة، وهنا الكلام ليس عن المحكمة الدولية بحد ذاتها، بل عن كل ما سبق، وكمْ الوقت الذي استغرقته، لتخرج بأحكام اعتبرها الكثيرون ناقصة، بينما رأى غيرهم أنها مسيّسة، ولم تتحقق العدالة فعلياً في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فهل على أهالي الضحايا انتظار عقد من الزمن أيضاً ليحصلوا على العدالة لأحبائهم؟ وماذا يضمن تحقيقها؟ لا شيء، بينما كان يمكن أن يصل البلد إلى العدالة الحقيقية، عبر نزع الحجج والنصوص القانونية التي يتسلح بها السياسيون، فقد قدم تيار “المستقبل” برئاسة الرئيس سعد الحريري مشروع قانون كان سيجعل الجميع يحضرون أمام المحقق العدلي، مهما علا شأنهم، ولكن المشروع سقط، أولاً ممن يدعون أنهم مع تحقيق العدالة اليوم، لأن لا أحد فعلياً يريد العدالة الحقيقية، بل أكثر من ذلك الجميع يتمنون أن تطول التحقيقات أكثر فأكثر، ليستثمروا في القضية قدر الإمكان، ويظهروا أمام الجمهور بمظهر الأبطال المناضلين من أجل العدالة.

المأساة عندما تضرب بلداً ما، عادة توحد الشعب ويصمت سياسيوه، إلا أن لبنان ليس بلداً عادياً، بل بلد غريب عجيب لا يمكن مقارنته بأي نموذج، تطغى فيه المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. هو بلد الوطنية فيه هي من يزايد أكثر في الولاء للخارج، فهل يعقل أن صاحب مركز أمني أو قضائي في بلد ما يتلقى تعليماته من دولة أخرى؟ هل يحصل هذا الأمر الا في هذا البلد العجيب؟ طبعاً لا، انه البلد الذي لا تضيع فيه العدالة وحسب، بل تضيع فيه الأحلام، وحتى الأمل… سرق، ولن يبقى إلا قصص رعب يخبرها الناس لأحفادهم، علهم يتعظون.

شارك المقال