شربل وهبه… تلميذ المدرسة العدمية

علي نون
علي نون

لنبدأ الرواية من آخرها: إذا كان ما تفوه به شربل وهبه هو رأيه الشخصي، على ما افصح بيان التنصل والتملص الذي صدر عن مرجعيته في القصر الجمهوري، فإن السؤال يطرح نفسه بنفسه من دون أي “دفشة” إضافية: كيف يمكن أن يُعين شخص يملك تلك “المواصفات” الذهنية والفكرية، المعروفة بالتأكيد للمعنيين الذين طرحوا اسمه، في منصب هو واجهة البلد الخارجية، وصوت الدولة عند الغير، والمبلغ مواقفها الرسمية إلى القريب والبعيد، والمعبّر الشرعي عن قراراتها إزاء القضايا المطروحة حول لبنان! وما في لبنان! وعلاقات لبنان! وظروف لبنان الميؤوس منها أو تكاد أن يبلغ اليأس مداه منها!؟ وكيف يمكن أولاً وأساساً المجيء بوزير سيادي يخفي في ثناياه وخباياه كل ذلك الحقد العنصري، الذي لا يماثله شيء معروف سوى ما كان أيام جمهورية جنوب أفريقيا الموؤودة؟!

هذا وزير للخارجية لم ينفعل مثل الرعاع فقط، ولم يستطع أن يجادل محاوره على الجانب الآخر بما يليق به وبمنصبه ودرايته ووفق الأصول العامة والآداب العامة، واللياقات التي يفرضها منصبه وصفته كديبلوماسي وليس رجل ميليشيا مثلاً… بل أظهر في لحظة طيارة كل مكنونات نفسه، وما تراكم في تركيبته من مواقف وخلفيات وطريقة تفكير وحكم على الأمور والناس والأعراق والأجناس… وذلك في جملته، مثلما بيّنته فلتات اللسان، آت من مخزون بدأه ميشال عون منذ أن ترأس الحكومة العسكرية البتراء في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وتمترس في القصر الجمهوري بعد أن حوله بشعوبية كوميدية سوداء إلى ما أسماه حينها “قصر الشعب” وراح يصول ويجول فيه إلى أن حوّله إلى خربة منتهكة، وحوّل لبنان واللبنانيين، والمسيحيين أكثر من غيرهم، إلى ضحايا لسلسلة كوارث وبلايا لم تنته مفاعيلها إلى اليوم!

من يعود إلى تلك المرحلة السوداء، التي تميّزت بحربي الإلغاء والتحرير في تسعينيات القرن الماضي، يكتشف الخلفية الفكرية لوزير خارجية العهد العوني في عشرينيات القرن الحالي: الخطب اليومية التي كانت تُلقى من على شرفة قصر بعبدا، تضمّنت مواقف ومصطلحات لم يسمع مثلها اللبنانيون حتى في ذروة احترابهم المرير والمديد، وتحديداً تجاه “دول الرمل والصحراء والنخيل “! والواضح اليوم، أن شربل وهبه كان من المستمعين “الجيدين ” لتلك الخُطب! وكثيرون في بيروت يعرفون ما يقوله الوزير العوني بين ندمائه وأصحابه! ويعرفون “طبيعة ” مواقفه الفعلية والصافية والدفينة إزاء “الآخرين” المختلفين في الهويتين السياسية والدينية! لكنه في ذلك (بالمناسبة!) ليس وحيداً ولا عازفًا منفرداً، بل مثله كثيرون عند باقي القوى والجماعات والأحزاب اللبنانية! حتى صار الأمر مألوفاً ومعتاداً: كلما اجتمع رهط متجانس طائفيًا أو مذهبياً، أو حتى حزبيًا، تصطف الغرائز الأُولى وراء بعضها بعضاً! ويُطلق العنان لكلام ومواقف أنوية وبغيضة وعنصرية تشبه أدبيات الوزير العوني المرذول اليوم !

لكن لم يعتد اللبنانيون على إطلاق كوامن نفوسهم الأمّارة بالشطط والغلط أمام الملأ! ومن يتجرأ على ذلك يُرمى بالنبذ والتقريع من أهل بيته قبل غيرهم! حتى صارت الشيزوفرينيا داءً مُلازماً لـ”طبيعة” اللبناني الأولى، أو بالأحرى للكثيرين من اللبنانيين هواة رمي ما فيهم من أمراض على غيرهم.

…قبل شربل وهبه في وزارة الخارجية الحسّاسة والخطيرة، مرّ عليها جبران باسيل وترك فيها بصماته الطائفية والعنصرية الواضحة… وفعل ما فعل بعلاقات لبنان الخارجية عن سابق تصور وتصميم ووفق أجندة لا يزال إلى اليوم، ومن موقعه الحزبي، يكررها بشيء من التنظير والتفخيم الذي يشبه تنظيرات وتفخيمات المبتدئين في أحزاب اليسار أيام زمان! يعني مبالغات مراهقة كان صاحبها الغُر يفترض أنه سيهز بها المستمعين إليه، فلا يفعل سوى هزّ عصب الاستهزاء والتأسّي … وإلى حدّ ما عصب الشفقة عند أصحاب القلوب الكبيرة!

من المدرسة العونية جاء التلميذ وهبه. وفي كتاب باسيل قرأ ويقرأ، وحكى ويحكي، ومشى ويمشي… وفلتة اللسان تلك لم تفعل سوى وضع المزيد من الحصى في وعاء مليء بالمرارات أصلًا! قبله كان الصهر جبران أول من دشّن جعل وزارة الخارجية ملحقاً حزبياً تابعاً لمحور الممانعة الإيراني-الأسدي، وضرب أول مسمار كبير في خشب العلاقات اللبنانية – العربية عموماً واللبنانية – السعودية، خصوصاً عندما امتنع عن التصويت وابتعد عن الإجماع العربي في إدانة الاعتداء الحوثي شكلاً والإيراني مضمونًا وفعلًا على مصافي النفط السعودية… وغير ذلك تفاصيل كثيرة تدلّ إلى أن العهد العوني يتصرف وفق جدول أعمال يضع الحقد في أول صفحاته ورأس صفحاته! ثم يضع حسبة سياسية ترى الدنيا بالمقلوب ولا تتردد في الجهر بأن أنانيتها وذاتيتها هي الأَولى في تلك الحسبة! بغضّ النظر عن الأضرار والكوارث التي يمكن أن تسببها (وسببتها) لعموم اللبنانيين وللبنان بأسره!

وكثيرون يتذكرون أن هذا العهد العوني أضاع ذلك الإنجاز الكبير الذي تمّ أيام العاهل السعودي الراحل المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز، والذي أبلغه إلى الرئيس السابق العماد ميشال سليمان خلال إحدى زياراته إلى الرياض، والمتمثل بدعم الجيش بثلاثة مليارات دولار أميركي تُصرف على خطّة تسليحية متطورة… وأضاع بعدها ما تبقى من مساحة ورحابة وتفهّم عربي وخليجي تحديداً لظروف لبنان المعروفة، ولمبدأ الفصل بين دولته الرسمية ومؤسساته الشرعية وبين سياسييه وأحزابه وإعلامه… تلك المساحة التي بقيت متاحة برغم كل الحروب التي مرّت على لبنان وفتكت بأهله، ضيّعها العهد العوني بهمّة ونشاط استثنائيين!! وللمرّة الأولى في تاريخ لبنان الحديث وفي مسيرة الأشواك تلك أطاح فريق عون – باسيل ذلك المبدأ الماسّي من خلال إلباس مواقفه الذاتية الحزبية ثياباً رسمية وشرعية!

شربل وهبه تلميذ نجيب في تلك المدرسة العدمية… والحل المرحلي يستدعي استقالته، لكن الحل الأسلم والأفضل للبنان وأهله يستدعي استقالة رئيسه !

كلمات البحث
شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً