فكرة الحرب تخامر “حزب إيران” كوسيلة لإقامة نظامه

عبدالوهاب بدرخان

في متابعة الأخبار، كان في الإمكان ملاحظة التسابق بين هذه العناوين المتباعدة في يوم واحد: تجدّد القصف على محطة زابوريجيا في أوكرانيا يفاقم الخطر النووي… انكشاف مخطط “الحرس الثوري الإيراني” لاغتيال عدد من السياسيين الأميركيين… ازدياد مؤشّرات التقارب بين النظام السوري وتركيا التي تتهيّأ لطي صفحة دعمها لـ “ثورة” الشعب السوري… وعملية احتجاز رهائن قام بها أحد المُودعين (بسام الشيخ حسين) في فرعٍ لـ “فيدرال بنك” في بيروت ليستعيد بعضاً من أمواله لعلاج والده… وفي الوقت عينه كان نائب رئيس المجلس النيابي اللبناني يقول إن “حرب غزّة أخّرت ترسيم الحدود مع إسرائيل” (ليس معروفاً قانونياً كيف ومَن أوكل هذا الملف الى الياس بوصعب، ولماذا)، وكما هو متوقّع فإنه لم يشرْ، ولن يشير أبداً، الى أن دخول إيران و”حزبها” على خط التفاوض من شأنه أن يفرض أكثر من تأخير. بالطبع، هناك تفاوت في الأهمية والخطورة بين تلك الأنباء، لكنها تُظهر الخطورة عينها بالنسبة الى المعنيين بها.

اضطرّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لتوجيه تنبيه الى زعيم “حزب إيران” في لبنان ومطالبته بـ “تجنّب الخُطب التي تزيد من تأجيج الموقف”. الأمم المتحدة راعية لمفاوضات ترسيم الحدود، وعلى اتصال دائم وشبه يومي بالجهات اللبنانية “الرسمية” المعنية، ومدركة لتعقيدات الملف وتفاصيل التنازلات والتقدم المُحرز أو العراقيل الطارئة. ولأنها مطّلعة على تقارير لتقدير الموقف، فإنها لا ترى منطقاً في ترويج حسن نصرالله لـ “الحرب”، فما يُفترض أن يحصّله لبنان من التفاوض وفقاً لمطالبه الأخيرة يمكن البناء عليه للبدء بالتنقيب عن ثروته، أما “الحرب” فيصعب التحكّم بمسارها ونتائجها، وهي قد تؤخّر فعلاً استغلال إسرائيل للغاز والنفط إلا أن تداعياتها الدولية قد تؤخّر أيضاً حصول لبنان على حقوقه.

معادلة “الغاز لإسرائيل مقابل الغاز للبنان” معادلة حربية غير قابلة للتطبيق، فإسرائيل جاهزة لاستغلال الثروة في حقل “كاريش” وتحتاج الى اتفاق الترسيم لتكسب مشروعية قانونية، أما لبنان فليس جاهزاً وكل الخبراء يؤكّدون أنه يحتاج الى سنوات عدّة قبل أن يصل الى مرحلة الإنتاج والتسويق.

إذاً فهي معادلة مضللة، ظاهرها حقّ وباطنها مشتبه بمآربه. قد يذهب الى حدّ احباط المفاوضات، حتى من دون تصعيد عسكري، فالمفاوض اللبناني ينفّذ القرار السياسي، وهذا القرار مُصادَر وغير مستقلّ. ينبغي ألّا يغيب عن الأذهان أن اتفاق الترسيم بالمفهوم اللبناني مختلف عنه بالمفهوم الإيراني، فما هو امتداد لاتفاق الهدنة (1949) لن يعني فقط “نهاية الصراع” لبنانياً، بل أيضاً إضفاء طابع اقتصادي عليها، وإن لم يشكّل “تطبيعاً” بين طرفي الحدود. لذلك فإن الترسيم بمحتواه وتوقيته لا يناسب المشروع الفارسي باعتبار أنه لا يحقّق مصلحةً خالصة لإيران. ولا تتمثّل تلك المصلحة فقط بالمسيّرات التي أطلقها “حزبها” تعزيزاً لـ “حقوق لبنان”، كما لا يزال يُقال، بل يُراد لاتفاق الترسيم، إذا ما أنجز، أن يبدو رضوخا أميركياً واسرائيلياً لـ”انتصار حزب إيران”. يُخشى أن تنزلق التطوّرات الى مواجهة حربية، وستكون في هذه الحال إسرائيلية – إيرانية، كما كانت في غزّة، توكيداً لوجود إيران كطرفٍ مباشرٍ، ولا إسرائيل ولا إيران مسؤولتان أمام اللبنانيين حتى لو كان “حزبها” محسوباً على لبنان.

ماذا تعني الحرب بالنسبة الى إيران و”حزبها”؟ انها تتويجٌ لمسيرة السيطرة على لبنان دولةً وكياناً. تلك مسيرة بدأت غداة انسحاب إسرائيل من الجنوب (2000) عندما عرقل “الحزب” كل مشاريع التنمية التي سعى رفيق الحريري اليها لإنعاش الجنوب، بل إن “الحزب” تولّى تنفيذ عملية اغتياله بتوافق بين النظامين السوري والإيراني. ثم كانت الحرب المفتعلة في 2006، ليعقبها الاعتصام في قلب بيروت، وصولاً في 2008 الى “تسوية الدوحة” التي فرضت تعديلاً على “تسوية الطائف” ومكّنت “الحزب” من إدارة الفراغ الرئاسي (2014 – 2016) ليفرض بعدها رئيس الجمهورية الذي اختاره لتنفيذ جانب من مخططه. وبما أن هذا الرئيس كان دمية مطيعة لـ “محور الممانعة” فإن “الحزب” تولّى حمايته بقمع “ثورة تشرين” (2019)، وكذلك حماية سلاحه الذي بدا مهدداً بعدما طالبت “الثورة” بسقوط المنظومة التي توفّر تغطية لعدم شرعيته.

وحين انفجرت الأزمة الاقتصادية والمالية لم يكن “الحزب” معنياً بالبحث عن معالجات كانت ممكنة في 2020، إلا أنه انكبّ على تعزيز اقتصاده الموازي القائم على التهريب بكل أنواعه، ووجد في افقار اللبنانيين وسيلة فضلى لخدمة قمعه لـ “الثورة” واستكمال مخططه للاستيلاء على ما تبقى من مؤسسات فاستغلّ تفجير المرفأ لزعزعة سلطة القضاء. وتعتبر إيران و”حزبها” أن 2022 باستحقاقيها (انتخاب رئيس جديد، وترسيم الحدود البحرية) سنة مناسبة للمضي خطوة أو خطوات أكبر في المشروع الفارسي، سواء بفرض تعديلات على الدستور، أو بالحرب، أو بالخيارين معاً.

هناك متغيّرات دولية وإقليمية، ما بعد أوكرانيا وما قبل تايوان، تناسب مخططات طهران والمشروع الفارسي، ويساعدها في ذلك استغلالها للأوضاع الخاصة في كلٍّ من بلدان النفوذ الإيراني (سوريا والعراق واليمن وغزّة). ففي لبنان، بدّد “توبيخ” البنك الدولي للمنظومة السياسية كل الآمال بخطة التعافي، سواء بتسليطه الضوء على التلكؤ في الإصلاحات العاجلة المطلوبة، أو خصوصاً بكشفه كذب الشعارات والأوهام التي تنشرها تلك المنظومة في شأن استعادة المودعين أموالهم. هذا الوضع ينذر بالمزيد من العمليات المسلّحة واحتجاز الرهائن، ومزيد من المعاناة الاجتماعية والفوضى الداخلية. وكلّما تعقّد الوضع الداخلي كلّما أنضج لدى “حزب إيران/ حزب الله” فكرة اللجوء الى الخارج بالحرب والعودة منها لحصد “إنجازات” في الداخل.

شارك المقال