الدبلوماسية اللبنانية بين “كارولين”… و”أهل البدو”!

أنطوني جعجع

هل يتحمل شربل وهبه وحده كل هذا الاهتراء الذي طاول السياسة اللبنانية على مستوى الإنسان والأداء والخيارات؟

في إطلالة سريعة على لبنان ما بعد الطائف، نجد غياباً شبه مطلق للخامات التي يتكون منها رجالات الدولة، سواء في المواقع السياسية أو الديبلوماسية أو الاقتصادية أو المالية أو الإدارية، وتراجعا لافتا في منسوب التمايز الذي كان واحدا من مزايا اللبنانيين في خلفيات الشرق والغرب معاً.

ولا يعود السبب في ذلك إلى علة في الجينات أو نقص في الكفاءات بمقدار ما يعود إلى مبدأ في الحكم يقوم على الولاء قبل الأداء، وهو مبدأ كرسه السوريون زمن الاحتلال وتبناه حلفاؤهم والأحزاب اللبنانية على تنوعها، تساعدهم في ذلك قواعد شعبية خاضعة تماماً ترفض الاعتراف بأي سقطات أو هفوات وأي محاسبة أو مساءلة أو أي مراجعة في المسارات.

وليس من قبيل المصادفة أن يخلو لبنان في العصر السوري من أي شخصية سياسية أو ديبلوماسية أو اقتصادية أو عسكرية لافتة أو جامعة، باستثناء مجموعة اختصاصيين لم يقدر لها أن تحكم كما تريد، وجاء بها الرئيس رفيق الحريري معتقداً أنه يستطيع بها ومعها التغيير بلا عراقيل أو محظورات أو ممنوعات أو خطوط حمر.

ومشكلة الحريري الأب في ذلك الوقت انه كان يتعامل مع أربعة ألغام:

الأول، أن القوة السنية الفاعلة يجب أن تبقى تحت السيطرة خشية أن تتمدد نحو الغالبية السنية المعزولة في سوريا.

الثاني، أن القوة المسيحية يجب أن تقتصر على مجموعة من الموالين غير القادرين على الرفض أو الانقلاب أو العصيان.

الثالث، أن الاحتلال السوري كان يحرص على التلطي خلف حلفائه الأوفياء للحؤول دون تنفيذ اتفاق الطائف لا سيما في شق الانسحابات تحديداً.

الرابع، أن السوريين تمكنوا من ضرب العائلات والأحزاب السياسية في مكان وتحجيمها في مكان آخر، ونفي أو اغتيال أو عزل أي حيثية مميزة يمكن أن تشكل حالة شعبية لا يمكن السيطرة عليها.

من هنا يمكن أن نلمس الحرص السوري على الإمساك بالمواقع الحساسة حصراً، سواء في وزارات الخارجية والداخلية والدفاع والعدل أو المواقع الأمنية، ولا سيما الأمن العام وأجهزة الاستخبارات والمؤسسات الإعلامية، إلى جانب الاحتفاظ بأغلبية مطلقة في مجلسي النواب والوزراء.

من هنا أيضاً، يمكن الإضاءة على هذا الكم الهائل من الشخصيات، التي دخلت عالم الضوء مغمورة وخرجت منه مغمورة، من دون أن تترك أي بصمة أو تخلف أي أثر.

ومع زوال العصر السوري، لم يبدل “الثوار” في الأمر شيئاً، لا بل تخلوا عن غالبيتهم النيابية مرتين في العام ٢٠٠٥ و٢٠٠٩ وخضعوا تدريجاً لمشيئة “حزب الله” الذي احتفظ بمطرقة البرلمان عبر الرئيس نبيه بري وبكثير من المواقع الحساسة، قبل أن يتمكن لاحقاً من التمدد سريعاً والهيمنة على معظم مفاصل الدولة، خصوصاً بعد الخروج من عزلته التي أعقبت اغتيال الحريري، عبر الحصول على غطاء مسيحي يعتد به وفره العماد ميشال عون الساعي إلى رئاسة الجمهورية بأي طريقة وبأي ثمن.

وما سار عليه السوريون سار عليه الورثة، فلا بحثوا عن كفاءات، ولا مهدوا الطريق أمام جيل جديد من الخامات الشبابية، التي يمكن أن تضفي لمسات من الكفاءة أو الشفافية في مجال التطور والحداثة والصالح العام.

وعمل هؤلاء على اختيار شخصيات طيعة مهمتها الأساسية الطاعة المطلقة في مقابل لقب ما أو موقع ما أو رافد ما، الأمر الذي يفسر هذه الهزالة التي صبغت الحياة السياسية والوطنية في لبنان، وحولت معظم رجاله الجدد إلى أتباع في الداخل و”خوارج ” في الخارج يغردون بعيداً من السرب العربي، وحولته من دولة رائدة إلى دولة هشة وفاشلة ومعزولة وحتى منبوذة لا تحظى بكثير من الاحترام، ولا يضرب لها أي حساب إلا في مجال الخطر الذي يمثله “حزب الله” في حسابات الدول الإقليمية والدولية.

وفي نظرة سريعة إلى الكتل النيابية التابعة للأحزاب اللبنانية، نجد من هم أقرب إلى الأزلام منهم إلى الأكفياء وأقرب إلى الأرقام منهم إلى الأقوياء، وهذا يعود إلى عاملين أساسيين:

– نزعة رؤساء الأحزاب إلى التسلح بالقوة العددية، اعتقاداً منهم أن هذه القوة تجعلهم الأكثر تمثيلاً داخل مجتمعاتهم وتقودهم بالتالي إلى السلطة، وهذا ما ينطبق على التيار الوطني الحر في شكل خاص ولا يوفر القوات اللبنانية إلى حد بعيد.

– حرص هؤلاء على التفرد بالقيادة من خلال التحكم بعناصره وليس الاحتكام إليهم، وهو ما ينطبق على جميع الطوائف والتيارات من دون أي استثناءات.

وفي عودة إلى ما أصاب شربل وهبه، لا بد من السؤال: ما هو المقياس الذي دفع الرئيس ميشال عون أو جبران باسيل إلى اختياره في المنصب الأكثر حساسية والأكثرعرضة للتحديات والاحراجات.

والجواب لا يحتاج إلى الكثير من التمحيص والتدقيق اذا ما عرفنا انه ينتمي إلى المدرسة التي ضربت علاقات لبنان بالدول العربية والغربية على حد سواء، والمدرسة التي حملت المحور السوري – الإيراني على اكتافها في مواجهة العالم كله تقريباً، والمدرسة التي تعاملت مع بعض المسؤولين الخليجيين على أنهم سعاة جنس أو مطاردو جميلات من هنا وهناك.

وأذكر هنا ما قام به جبران باسيل أمام وزير خارجية الإمارات عبدالله بن زايد عندما راح ينادي بصوت مرتفع ومتكرر على امرأة لبنانية تدعى “كارولين” وتعمل في الجهاز الديبلوماسي في الأمم المتحدة.

ورداً على تساؤل الوزير الإماراتي حيال هذه اللهفة، حاول باسيل أن يلفته إلى جمال تلك المرأة، من دون أي اعتبار لكرامة الرجل وشرف المرأة اللبنانية ورصانة الدبلوماسية اللبنانية.

في تلك الفترة كنت في أبوظبي وتحديداً في جريدة “الاتحاد” الحكومية عندما تواصل معي أحد المسؤولين الإماراتيين قائلاً: “أطلب من وزير خارجيتكم أن يبيع الهوى في غير مكان”.

انسأل بعد: لماذا هزل كل شيء في لبنان؟ وماذا فعلت الاحتلالات والمصالح والتدخلات فيه؟ ولماذا يتشابه الخلف والسلف؟ ولماذا بات البحث عن رجل دولة عندنا كمن يراهن على الدفء من ضوء نجمة.

شارك المقال
ترك تعليق

اترك تعليقاً