الاتفاق النووي… من يضحك على من؟

أنطوني جعجع

سواء أبرم الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وايران أو عُلق أو ألغي، لن يتغير الكثير، ولن يمضي الشرق الأوسط على الأرجح الى عصر ذهبي يعيش فيه الايرانيون سلاطين والأميركيون حاكمين والعرب هانئين واليهود آمنين…

فما بين الأطراف الأربعة ليس مجرد بنود ومندرجات على الورق، ولا هي مرحلة تلغي مرحلة وتفتح صفحات جديدة، بل هي بكل بساطة فرملة لصراع حتمي لا بد أن ينفجر في زمن ما، لا لأن القدر يتحكم بالأمر، بل لأنهم جميعاً في حاجة الى التقاط أنفاسهم في مرحلة تتطلب تأجيل النار لا تأجيجها.

فلا ايران مستعدة للتنازل عن المكاسب الجيوسياسية التي كسبتها منذ انطلاق “الثورة الاسلامية” في العام ١٩٧٩، ولا أميركا مستعدة للتعايش مع دولة نووية جديدة على غرار كوريا الشمالية، ولا العرب على استعداد لقبول جار مدجج بتمدد عقائدي مسلح يهدد تركيباتهم المذهبية من جهة وثرواتهم النفطية من جهة ثانية، ولا الاسرائيليون على استعداد لادارة ظهرهم لقنبلة نووية قد لا يتردد أصحابها في اطلاقها في لحظة “جهاد مجنون” أو لترسانة صاروخية هائلة يحتفظ بها “حزب الله” على بعد أمتار من حدودهم الشمالية.

وليست الاشتباكات الأخيرة بين القوات الأميركية والميليشيات الايرانية في سوريا، اضافة الى الغارات الاسرائيلية الكثيفة على ترسانات “الحرس الثوري” وحلفائه، الا رسائل صاخبة تؤكد أن ما يغلي تحت الاتفاق النووي المنشود هو غير ما يُخمد فوقه.

وليس ما تردد عن قيام الروس بسحب بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات من طراز “اس ٣٠٠”، الا رسالة أخرى صاخبة، تؤكد أن المحور الايراني في سوريا قد فقد مظلة دولية وازنة كان يمكن أن يراهن عليها في صراع النفوذ والتوسع مع كل من اسرائيل أو الولايات المتحدة، الى جانب المظلة الصينية المنشغلة بصراع خفي مع العالم الغربي على تخوم تايوان.

والواقع أن أميركا واسرائيل أرادتا إفهام الايرانيين وحلفائهم، أن الاتفاق العتيد ليس اتفاق سلام ولا “صك براءة” ولا شهادة في حسن السلوك يسمح بابقاء القديم على قدمه، واعطاء طهران تحت الطاولة ما مُنع عنها فوق الطاولة، أي ما تحتاج اليه من وقت لاستكمال قنبلتها النووية، وما تحتاج اليه من أموال لاعادة ترتيب الوضع التمويني لأدواتها في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة.

والواقع أيضاً، أن طهران لم تتحمل طويلاً هذا الكم الهائل من العقوبات والضغوط الدولية لتنكمش في النهاية على نفسها، وتتحول الى مجرد كيان نفطي يبحث عن أسواق ومستهلكين، ولا الى نمر بلا مخالب وسط بيئة عربية واقليمية لا تأمن لها ولا تثق بأي من تعهداتها والتزاماتها.

والواقع أيضاً وأيضاً، أن ما جرى حتى الآن، ليس سوى اتفاق مفخخ قابل للانفجار عند أول امتحان أو أي خطأ قد يرتكبه “الحرس الثوري” أو “حزب الله” أو حركة “حماس”، أو عند أول أي فرصة قد تجدها أميركا واسرائيل مناسبة لضرب المنشآت النووية الايرانية عبر أسلحة تقليدية أو عبر تكنولوجيات عسكرية ومخابراتية متطورة.

وقد يكون في هذه القراءة نوع من المبالغة والتكهنات الواسعة، لكن السؤال يبقى: ماذا كسبت ايران كي تهدأ، وماذا كسبت أميركا كي ترضى، وماذا كسب الخليج كي يهنأ وماذا كسبت اسرائيل كي تأمن، وهي التي وفرت لنفسها حرية التحرك ضد ايران و”حزب الله” في أي مكان من دون تنسيق أو اذن مسبق من البيت الأبيض؟

الجواب بسيط، لا أحد من كل هؤلاء يمكن أن يقول انه بلغ شاطئ الأمان واستراح، اذ أن كل القنابل الموقوتة المنتشرة منذ العام ١٩٧٩ لا تزال في مكانها، وأن الاصابع لا تزال على الزناد، ما دامت اليمن دولة منكوبة، وما دام العراق دولة مضطربة، وما دامت سوريا دولة مشتتة، وما دام لبنان دولة محتلة، وما دامت غزة كياناً مفخخاً، وما دام الخليج بكل ثرواته وأنظمته وحكامه في مرمى الصواريخ من جهة والأقليات العقائدية من جهة ثانية، وما دام العالم الغربي في حاجة الى روافد النفط والغاز بأي ثمن وأي طريقة.

وأكثر من ذلك، ماذا كسبت ايران نفسها؟ الجواب أيضاً ليس على قدر الآمال والتوقعات، فهي لم تنجح في انتزاع “حراس الثورة” من لائحة العقوبات والمنظمات الارهابية، ولم تنجح في الحصول على وعد يمنع أي رئيس أميركي في المستقبل من الغاء الاتفاق، ولا في الغاء تحقيق تجريه الوكالة الدولية للطاقة الذرية في بقايا مواد نووية عثرت عليها في منشآت ايرانية، ولا في ضمان أمن ترساناتها البالستية وغير التقليدية، اضافة الى أمن علمائها وضباطها الكبار.

وأكثر من ذلك، ماذا يمكن أن تفعل ايران للحصول على “كيان شيعي” مستقل في اليمن من دون صراع مع جيرانه الخليحيين، أو في العراق من دون صراع مع السنة والشيعة المستقلين، وفي سوريا من دون صدامات مع اسرائيل وتركيا وأميركا، وفي لبنان من دون مواجهة مع المسيحيين والسنة والدروز على المستوى الداخلي ومع اسرائيل على المستوى الحدودي، ومع الولايات المتحدة على مستوى النفوذ والاقتصاد والانتشار، وفي غزة من دون تطاحن مع الآلة العسكرية الاسرائيلية وصدام مع منظمة التحرير الفلسطينية نفسها؟

وأكثر من ذلك أيضاً، ماذا يمكن أن تفعل حيال الانتشار الاسرائيلي الديبلوماسي والأمني على حدودها مع الخليج والانتشار العسكري الأميركي على حدودها البحرية، اضافة الى عزلة دولية واسعة نتجت عن عمليات ارهابية شنها أو خطط لها حلفاؤها في نحو سبعين دولة أجنبية؟

انه بكل بساطة اتفاق التساؤلات التي بالكاد تنتهي، واتفاق الاتفاق على عض الأصابع في انتظار ما يمكن أن تنتهي اليه الحرب الروسية في أوكرانيا، أي الحرب التي يمكن أن تعيد روسيا الى الساحة الدولية لاعباً حاسماً أو تعيدها الى داخل حدودها دولة منكفئة تضمد جراحها وتعيد تنظيم صفوفها.

وانه بكل بساطة أيضاً، “اتفاق الممكن” في ظرف دقيق، لا تجد فيه ايران بداً من القبول بأي شيء لرفع العقوبات، ولا تجد أميركا والعرب بداً من الرهان عليه لتقطيع مرحلة لا لبناء مرحلة ما دام السلام النهائي بعيداً وما دامت الحرب الحاسمة ممنوعة ولو حتى اشعار آخر.

شيء واحد يجمع الفريقين، وهو الادعاء بأنهما خرجا من فيينا منتصرين، وهو ادعاء يهدف الى تحويل “الخيبة” الايرانية الى انجاز معنوي يرضي الداخل المتشنج والخارج القلق، وتحويل “التراخي” الأميركي الى مادة سياسية ايجابية عشية الانتخابات النصفية المقبلة.

ويبقى السؤال الأساس، أين لبنان من كل هذا؟

انه في يد لاعب صغير يظن نفسه لاعباً كبيراً، وفي يد مقاتل مسلح يظن نفسه المقاتل الوحيد، وفي يد حاكم يظن العناد نوعاً من الرجولة متناسين جميعاً أن في لعبة الأمم لا مكان للفؤوس الصدئة أو للرؤوس الحامية.

الكل يضحك على الكل، ووحدهم المعاندون في لبنان لا يدركون أن خير الضاحكين من يضحك أخيراً.

شارك المقال