البعد العروبي لسُنِّة لبنان عائق أمام إلحاقه بالمحور الإيراني

زياد سامي عيتاني

التوصيف غير البريء الذي أطلقه السفير الإيراني من دار الإفتاء، عقب زيارته سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية، “مفتي أهل السنة في لبنان”، كان كافياً لإظهار الغضب المكبوت الذي يعيشه أهل السنة والجماعة في لبنان (أحد أبرز المكونات الوطنية للدولة اللبنانية) من جراء شعورهم المحق بما يتعرضون له من استهداف ممنهج ومبرمج، هدفه تهميش وتحجيم دورهم التاريخي والتأسيسي والمؤثر في المعادلة السياسية اللبنانية، ضمن مخطط تنفذ فصوله تباعاً لتغيير هوية لبنان، وبالتالي ضرب توازناته الوطنية…

فالطائفة السنّية في الوقت الراهن تعيش حالة من الضبابية، لا بل السوداوية والضياع إزاء واقعها السياسي المتراجع محلياً وعلى صعيد المنطقة، من جراء التحولات والمتغيرات الجذرية في كلٍّ من العراق وسوريا تحديداً، وإنعكاس تردداتها على الداخل اللبناني، (من دون إسقاط المسؤوليات الجسام التي يتحملها زعماؤها ومرجعياتها في ما آلت إليه أوضاعها)، والشعور العام المخيم على بيئتها بالمظلومية والإحباط، وحتى الإلغاء السياسي!.

لم يسبق للمسلمين السنّة في لبنان أن وجدوا أنفسهم في محنة سياسية كالمحنة الحقيقية التي يجدون أنفسهم فيها اليوم، خصوصاً مع غياب وتغييب مرجعياتهم الوازنة الدينية والسياسية والزعاماتية، مما يشعرهم بما يشبه “اليتم” السياسي.

وما يزيد من حالة الإحباط واليأس لدى السنة إضافة الى الخلل البنيوي المستجد على صعيد السلطة السياسية، عاملان إثنان: داخلي وخارجي.

  • على الصعيد الداخلي، يوجد عتب كبير على الشركاء في الوطن، الذين يتعاطون مع إستهداف “السنية السياسية”، وكأنه إنتصار سياسي لهم، سوف يمنحهم مزيداً من المكتسبات والنفوذ السلطوي. وهذا العتب، تحول إلى إتهام بعدم الوفاء ونكران الجميل، لأن الطائفة السنّية في لبنان ببعدها والتزامها اللبناني – الوطني، والميثاقي – التعايشي، وانتمائها العربي المنفتح، كانت منذ تأسيس دولة لبنان الكبير سنة ١٩٢٠، نقطة الإرتكاز وحجر الزاوية في قيام الجمهورية اللبنانية، وكانت على الدوام تؤدي دوراً وتقوم بمساع للتلاقي التوافقي بين مختلف الفئات، حفاظاً على الميثاقية الوطنية الجامعة.

الخطير في الموضوع، إصرار وإمعان بعض القوى المحلية المنتشية بهذا التراجع (خصوماً وحلفاء) في الإفادة منه وإستثماره لمصالحها، تكبيراً لأحجامها (وإن تورّماً)، إما إنتقاماً أو إستئثاراً، وحتى وراثة (!) متناسية أن ذلك سوف يتسبب بتداعيات عميقة في موازين القوى المحلية، وستكون لها إنعكاسات خطرة على مستقبل لبنان الكيان والصيغة، تهدّد نظامه التعددي، وتغيّر وجهه الحضاري، وتسلخه عن محيطه العربي!.

  • على الصعيد الخارجي، فإنه ينقسم إلى جزءين: عربي وغربي.

– عربياً، لا يجد السنة اللبنانيون المتمسكون بعروبتهم، أي سبب أو مبرر للتخلي والإعراض من الدول العربية المؤثرة والفاعلة عن لبنان، الذي لم يتوانَ يوماً عن إعتبارها عمقه الإستراتيجي، مما جعله ممسوكاً من المحور الإيراني، وإنعكس ضعفاً ووهناً على الدور السياسي والوطني لسنة لبنان.

– غربياً، بات واضحاً أن عواصم القرار الدولية، لديها قضايا وإهتمامات إستراتيجية كبرى وبالغة الخطورة على أكثر من صعيد، مما جعلها تلزم لبنان إلى فرنسا، في محاولة لمنع إنهياره بالكامل. غير أن الرئيس الفرنسي، تخطى وتجاوز الدور الفرنسي التقليدي (الراعي والحاضن) تجاه لبنان، وبات يتعاطى مع الملف اللبناني وكأنه “مدير عام لشركة توتال”(!) الأمر الذي دفعه الى الإقرار والتسليم بالنفوذ الإيراني في لبنان، والتعامل مع لبنان السياسي على هذا الأساس (!)، ليضمن لشركة “توتال” حصتها من التنقيب عن الغاز اللبناني.

في هذا السياق، علينا الإقرار وبكل موضوعية، بأنه لا يمكن فصل الواقع السياسي للسنة في لبنان عما تعرض ويتعرض له السنة في كل من سوريا والعراق، (الذي لعبت نخبها دوراً بارزاً في تأسيسه)، بحيث بدأت تظهر وتتضح ملامح بدايات هذا الواقع مع بدء الإحتلال الأميركي للعراق، وما تبعه من أحداث وتطورات دراماتيكية في الإقليم برمته، نتجت عنها متغيرات جذرية في خارطته الجيو – سياسية، وقلبت التوازنات الاستراتيجية فيه.

وقد دفع السنّة في كلا البلدين العريقين أثماناً باهظة، بعد شيطنتهم وإتهامهم بالدعشنة (!)، كتبرير لما تعرّضوا له من إبادة شبه جماعية من جراء مؤامرة التطهير المذهبي التي قضت منذ العام 2011 على نحو مليون وتهجير 12 مليوناً، جلّهم من مدن السنّة وأريافهم.

وفي هذا السياق، فإن الأمانة التاريخية تقتضي التذكير، بأن الإستهداف المبطن غير المعلن للدورين الوطني والقومي للسنة في كلا البلدين، بدأ بخبث ودهاء مع مرحلة “عسكرة السياسة” و”ترييف المدن” و”تطييف التقدمية المزعومة”.

ربما يستغرب البعض، الربط بين واقع سنة لبنان من جهة، وسنة سوريا والعراق من جهة أخرى، متسائلاً عن سبب هذا التأثير بهذا الحجم للنيران والحروب التي اندلعت في البلدين على واقع السنة اللبنانيين؟

الإجابة عن هذا التساؤل، ومن دون الدخول في الحيثيات التاريخية لإنشاء دولة لبنان الكبير، تقتضي توضيح الآتي:

إن الطابع “المديني” كان هو الغالب على سياسات النخب السنّية في لبنان، وشكّل تواصلاً وتقاطعات إجتماعية وتجارية وحتى عائلية، وصولاً إلى سياسية متبادلة بين هذه النخب وقريناتها في مدن الداخل السوري وفلسطين والعراق، مما ساهم في نسج علاقات سياسية متينة فيما بين تلك النخب، بالتزامن مع إطلاق الحركات القومية العربية من أبناء الأسر السنّية في المدن الكبرى من بيروت وطرابلس واللاذقية وصيدا والقدس غرباً، إلى دمشق وحلب وحمص وحماة، وحتى بغداد والموصل شرقاً.

من هنا، يمكن فهم أهمية الدور العروبي المحوري – المركزي الذي لعبته القيادات السنية اللبنانية ذات التوجه القومي، وبالتالي تأثيرها الفكري والعقائدي لدى شرائح واسعة في مجتمعات تلك البلدان العربية المجاورة، أثرت على مسار الحياة السياسية فيها، قبل أن تحكمها الأنظمة الديكتاتورية.

فالسنة في لبنان لم يتقوقعوا يوماً في إطار ضيق كطائفة، بل كانوا على الدوام يتعاطون وبكل تواضع وإنفتاح تعايشي على أنهم جزء من أمة، من منطلق إيمانهم بعروبة لبنان المتنورة، مع التمسك بصيغته الفريدة القائمة على التعدد والتنوع والإنفتاح، ضمن نظام سياسي (وإن كان طائفياً!) يضمن خصوصيته الوطنية، ويطمئن جميع مكوناته، مع التطلع الدائم الى ضرورة تطوير نظامه السياسي وحتميته، عندما تتاح الظروف، بهدف الترفع التدريجي من الإنتماء الطائفي إلى المواطنة العميقة، وصولاً إلى قيام دولة لا تكون الطائفية السياسية ركيزتها.

وهذا الدور الأدائي المتميز سياسياً للقيادات السنية التاريخية، جعلها تخرج من مجال الزعامة السنيّة الى مجال القيادة الوطنية في لبنان، ولعب الدور المحوري في ترسيخ أمتن الروابط مع أشقائه العرب، ونسج أوسع وأفضل علاقات التعاون مع أصدقائه الغربيين، الذين لم يتوانوا جميعهم يوماً عن الوقوف الى جانب لبنان الشقيق والصديق، لا سيما خلال أزماته والمخاطر التي كانت تستهدفه.

بناء على كل ذلك، يمكن فهم حجم الإستهداف الوجودي الذي يهدد الدور التاريخي للسنة في لبنان، لأن ثوابتهم ومسلماتهم الوطنية والميثاقية المنفتحة، تشكل عائقاً كبيراً أمام مشروع التمدد التوسعي الإيراني، الطامح الى إستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، وبالتالي إلحاق لبنان نهائياً بما أطلق عليه “الهلال الفارسي” (!) بحيث أن هذه الأطماع الفارسية تدفعهم بشتى الوسائل الى القضاء بأي وسيلة على من يقف عائقاً أمام كاسحتهم التوسعية!.


*إعلامي

شارك المقال